الجمعة، 16 نوفمبر 2012

رسالة من الحنين


في إحدى ليالي نوفمبر ، وحبات المطر بالكاد تداعب نافذة حجرتها شبه المتوارية خلف ستائر مزركشة بألوان الطيف ، تنبعث أضواء الكريستال العنقودية المتدلية من سقف الحجرة ذي القبة المزخرفة بنقوش جبسية ، ليخترق ظلها ويستكين بين أسوار حديقتها المتراصة في البنيان ، وقد اتكأت برسغها على إحدى دفتي خازنة ثيابها المصنوعة من الخشب المعتق ، وأناملها تلامس ببطء متعمد ضفائرها التي تشبه لون السماء في ليلة يكتمل فيها البدر .

تقف حائرة وقد خانها تعدد البدائل والاختيارات ، فلكل ثوب حكاية تسطر ذكريات أناقتها وأنوثتها حين يتجدد موعد هذه الحفلة بالذات ، ولكنها قررت أن تختار الثوب الأسود المنسدل إلى أخمص قدميها ، وتهذب عري أكتافه وظهره بوشاح من حرير الساتان ، ثم لتقف أمام المرآة وترتدي كامل زينتها من أقراط اللؤلؤ والياقوت ، وتحيط معصمها بسوار ماسي يخطف سنا برقه بالألباب قبل العيون ، وقلادة من الذهب الأبيض تحجب ما ظل منكشفا من عري صدرها ، وخواتم بعدد أصابع يديها وقد اجتمعت في محيطها كل صنوف الأحجار من كريمها ونفيسها ، ولأنها لا ترغب بالمبالغة في زينة وجهها ، اكتفت بقليل من أحمر الشفاه وكحل العيون ، ورسمت أصابع كفيها وقدميها بلون مشتق يليق بفتنة ثيابها ، وربطت حبال الحذاء الأسود ذي الكعب العالي حول ساقيها الممشوقتين كغزالة حين تسير مزهوة في البريه ، وهمت نحو باب الحجرة تتهيأ للنزول إلى الطابق السفلي لاستقبال الضيوف .

سمعت صوت طرقعة على النافذة وهي تضع خطوتها الأولى خارج حجرتها ، فتراجعت بخطوة مماثلة إلى الوراء والتفتت مذعورة وهي تصرخ : (( من هناك ؟ )) ، ولكن الصوت تلاشى بين بندول ساعة الحائط والرياح التي كانت تعوي من خلف النافذة في سكون الليل ، فاقتربت تجر قدميها بحذر وخوف ، لتجد رسالة معلقة على مزلاج النافذة وقد شد وثاقها بخيط رفيع .

تبدأ بقراءة الرسالة ، والأصوات تناديها في الأسفل كي تستعجلها لبدء الاحتفال ، ولكنها تسخر حواسها الخمس في تلك اللحظات مع كل سطر وكلمة وحرف جاء في متن رسالة عاشق تعمد أن يكتب إليها في هذا التوقيت بالذات .

سافرت وسافرت بين مدن النساء ، ولكن حنيني ظل يشدني إليك ، حاولت أن انتزع قلبي بيدي كلما أصر على الهذيان بحروف اسمك ، و أقسمت على نسيانك وشطب أوراقك من ذاكرتي ، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأنت وطني الذي أقسمت أن لا أنتمي في يوم لسواه ؟   

ولا يزال باب حجرتها الموصد يتداعى بطرقات من ينتظرها لحفلة نوفمبر ، وقلبها يكاد يفتح بابه لمن ينتظرها في الحديقة لحفلة لا تنتهي من العشق  ، وإذ بخطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف ، ونظرة إلى الحديقة وأخرى إلى باب حجرتها ، أتذهب إليه وتلقي من ورائها كل ما هي فيه من نعيم ؟ 

تمزق الرسالة وترمي بها في سلة المهملات ، وتهبط أدراج قصرها بخيلاء ، ليبدأ الاحتفال بتصفيق حار وهتافات من المدعوين ، وآلات تصوير تتسابق عدساتها في التقاط ضحكتها التي اندثرت فيها كل كلمة قرأتها للتو في رسالة من الحنين .         

هناك تعليقان (2):