" ممنوع هو الاقتراب منك يا حبيبتي ... وكأن الذي بيننا مسافات أقدارٍ لا أمتار ... ولكن حبك يزداد كثافةً كلما ابتعدت ... فكل ممنوع ٍ يظل دائما هو المرغوب "
ها أنا ذا أجلس في جوف هذا الليل وحيداً ، أتوسّدُ مائدة الذكريات ، الأوراق البيضاء المتناثرة من حولي تتبعثر في كل مكان ، تنتظرني كي أنفثُ فيها روح الحروف ونبض الكلمات .
خمسة أعوام ٍ كانت قد انقضت كلمح البصر في محجر العين ، وانقطعت أخبارك عني ، ولا سبيل للتواصل أو الاطمئنان عليك ، وأعلم الآن جيداً عند هذا التوقيت بالذات ، أن الحب الإلكتروني لم يكن إلا وهماً كنّا نعيشه بين الحقيقة والخيال .
من أين أستهلُّ بالحديث عن قصتنا ؟ وهي حكاية ٌ تجاوزت فيها الخاتمة كل المقدمات ، وتلخصت حبكتها في سبع ساعات ٍ كان النهار ينشطر فيها ما بين الأردن وكندا ، وكأن خطوط الطول ودوائر العرض الوهمية على امتداد الكرة الأرضية من مشرقها وحتى مغربها ، ستظلُّ هي الحاجز الحقيقي الوحيد في مواجهة قرية العالم العنكبوتية ، والتي كذبت علينا في مواطن عديدة ، وجعلتنا نعتقدُ أن المسافات الجغرافية ووحدات القياس الفيزيائية ، قد تتلاشى بالضغط على فأرة الحاسوب أو بتحسس شاشات جهاز هاتفنا الذكي المحمول .
ولكن من الذي قال أن الحب في زمن الإنترنت يمكن له أن ينتصر أو يبقى على قيد جمرات العشق ملتهباً ، وهو يقضي ذكرياته من خلف حجاب الأجهزة الرقمية وأدواتها ، وبرامجها التكنولوجية التي مهّدت طرق التواصل الاجتماعي بين البشر مهما تباعدت بينهم المسافات على أرض الواقع ؟
إنها كالمخدر الذي يسكّنُ موضع الألم للحظات ٍ سرعان ما ينتهي أثرها بمجرد إغلاق شاشات المحادثة الافتراضية ، أو الانتهاء من كتابة الرسائل الإلكترونية .
ومع هذا أعترف اليوم أنني ومن بعد انفجار الأزمة السورية في منتصف شهر آذار من عام 2011 ، ذلك التاريخ المحفور في ذاكرتي لأسباب ٍ لا تعدُّ ولا تحصى ، ولكنَّ السبب الموجع من بينها أكثر ، ارتباطهُ بيوم رحيلكِ عني ، وهو ما جعلني أثقُ بقدرتي على شطب اسمك من أوراق ذاكرتي ، والشاهد الباقي أنني أفعلُ ذلك في كل يوم ، فما أسهلَ الإقلاع عن حبك ، وما أصعبَ محاولة نسيانك .
كيف مضت كل هذه الأيام والسنين ، وكم مزّقتُ من رزنامةِ التقاويمِ والأجندات الميلادية والهجرية ، وكم استقبلتُ مواسمَ الأعياد وفصول السنة من ربيعها وحتى خريفها ، وكنتُ شاهداً على كوارث الأمة السياسية والاقتصادية والكونية ، حتى أن التاريخ أعاد كتابة نفسه عدة مرات ، والوطن العربي عاش كذلك ربيع العمر وخريفهُ في مناسبات ٍ متتابعة ٍ من محيطه وحتى خليجه .
ولقد كنتُ في خضمّ كل هذه الأحداث ، أقتلعُ من رأسي في كل يومٍ شعرةً من بقايا الأمنيات والأحلام ، حتى وصلتُ إلى الصلع ِ المبكر من التفاؤل ِ في هذه الحياة ، وعلى الرغم من هذا كلّه ، ظلّ عبقُ حروف اسمك يحتلُّ كل ركن ٍ من أركان ذاكرتي القريبة ِ والبعيدة ، وهي تنشطرُ منذ اخترقتني أنوثتك ِ إلى تاريخ العشق من قبلك ِ ومن بعدك ِ .
كيف تتواطؤ الطبيعة معك ِ في كل مكان ٍ أذهبُ إليه ؟ كيف أجتثّ جذور ياسمينك ِ من حدائق المنازل المحيطة حولي ؟ وكيف أحطم قوارير عطرك ِ وأنا أشمّها على أجساد النساء ؟ أين المفرّ من زهرة ٍ بيضاء اسمها ياسمين ؟
مضى من الوقت ساعتين ، ولا أزالُ أبحثُ عن مقدمة ٍ استفتحُ فيها الحديث عنكِ ، أو الحديث عني ، أو الحديثَ عنك وعني ، وما الفرق ؟ فأنا من بعدكِ من أكون ؟
يا وجع الحروف حين تعانقُ الورقَ وهي تبكي عودةَ حلم ٍ ما كان في يوم ٍ ليتحققَ ويكسر قيود المستحيل ، يا خيبةَ الكلمات وهي تجتهدُ في صياغةِ حنينها المبتورِ وأشواقها المنكسرة ، لعلها تعترفُ من بعد الموت الكاذب للحب أنه لا يزالُ على قيد الحياة .
يا ست النساء ، وكما كنتُ أناديكِ بهذا الاسم دوماً ، وأقسمُ لك أنهنّ كحبّاتِ الرمال من بعدك ، أعترفُ أنني لا أزالُ أحبك بالجنون ذاته ، وأعشقكِ بالشغف ذاته ، ولا زلتُ أبكي على أطلال رسائلكِ الإلكترونية ، وقصائدكِ المنشورة على موقع الصحيفة التي كنتِ تكتبينَ في زاويتها اليومية ، لتكونَ كلماتكِ منعطفَ القدرِ الذي جمعنا على ناصية الحب في يوم ٍ من الأيام .