الجمعة، 30 ديسمبر 2011

خيالات عاشق في ليلة رأس السنة

في تلك الساحات التي تعج بالبشر وهم يهتفون بالعد التنازلي لعام يلفظ الثواني الأخيرة من أيامه ، ثمة عاشق يقف في منأى عن الجموع في زاوية مظلمة لا تطالها أنوار الاحتفال ، والتي تنطفئ سريعا كلما أفصح العام الجديد عما في جعبته من أحداث وأخبار لا تليق ببشائر التفاؤل المرتقبة في بداياته .

هو ليس معنيا بالسياسة ، ولا يكترث بترقب أزهار الربيع إن أينعت إثر تغيير التربة التي تحتويها ، ولا أعتقد أن الإقتصاد بكساده أو رخائه ، وجنون الأسواق المالية وتقلبات أسعار العملات ، وانهيار تحالفات الدول العظمى أو اتفاقها ، وارتفاع مؤشرات الأمن المجتمعي أو انخفاضها ، قد تحتل حيزا من خياله في تلك اللحظات .

إن قلبه كان يشبه حياة الغجر ، فلا يستقر على محبة امرأة قط ، ولكنه في هذه الليلة عزم أمره على البقاء في أحضان امرأة تدرك تماما أن رياح الحب إذا هبت فلا بد من اغتنامها ، فالتاريخ يؤكد مع كل تعداد زمني لسنواته ، أن الذي يمضي لا يعود ويلتفت للخلف .

ولكن من تكون يا ترى هذه المرأة ؟

أهي امرأة تقطن بلاد العرب أم العجم ؟ شقراء أم سمراء ؟ عيناها كزبد البحر أم كغابات النخيل ؟ أم كالعسل الذي يقطر فوق أغصان البلوط والسنديان ؟

تراها أي حرف اختارت من الأبجدية ليهمس في أذنيها كل حروف النداء ؟ وهل حقا تتقن أناملها مداعبة وجنتيه الشاحبتين ؟ ومعانقة كفيه المرتجفتين ؟

أين كان لقاؤهما المفترض ؟ على ذاك المقعد المقابل لمنزل جدتها عند حديقة الجاحظ في دمشق ؟ أم خلف صخرة الروشة في بيروت ؟ أو قد يكون غفل أنها تنتظره في كوبري قصر النيل ؟ ولربما ابتعدت قليلا ومشت على جسور قسنطينه وسألته أن يكون بطلا لرواية لم تكتبها (( أحلام المستغانمي )) بعد ؟

كل الاحتمالات كانت ممكنه ، وهذا كان يستدعي منه أن يجتهد في حصص التاريخ والجغرافيا ، ويتقن لغات ولهجات عديدة ، ويحفظ كل قصص الحب ودواوين الشعر قبل عصر الحب العذري وبعده ، ولكن ثمة أشياء تظل ناقصة مهما سعى المرء لإكمالها ، كخطوط الحبر التي تنضب قبل رسمها على الورق .

قد يكون في هذه الليلة ينتظرها ، ولربما في الغد سيمضي مع العام الجديد ويستجدي حلول عام آخر ، كحاله منذ ثلاثة عقود قد خلت ، لا شيء مما يتمناه يحدث قط ، لعله في هذا العام يدرك أن نصيبه من هذه الدنيا لا يتعدى الأمنيات .

ولذلك أيها العاشق كفاك خيالا وتمني ، ففي الحب إما أن تكون أو لا تكون ، ومن العدم لا يخلق العشق ، و لا توجد منطقة رمادية أو بعد ثالث يخط على كراسات القلوب عاطفة يتم وأدها حين ولادتها .

عند حلول كل عام جديد ، نتفاؤل ونتمنى ونحلم ، ولكننا لا نجرؤ على محاولة الإقدام لتحقيق ما نصبو إليه ، ونلقي باللوم دوما على الظروف والأقدار التي تعاكس إرادتنا ، فمتى نتحرر من هواجس تلك القيود ، ولا نتردد ولو لمرة واحدة في حياتنا من المسير في دروب دون التفكير بنهايتها ؟

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

أميرة من بلاد القوقاز


كي أكتب عنك ، فذلك يستدعي أن استحضر طقوسا استثنائية ، فلقد كانت الليلة الأولى من نوفمبر ، ذاك التاريخ المرتبط على وجه الدقة بذكريات (( أحلام المستغانمي )) كاتبتك المفضلة ، والمرتبط بذكرى تدوينتك التي لن أنساها ما حييت قط ، فلقد كانت أول تدوينة بحق قلمي الذي لطالما عاش في الظل وحيدا ، لا يجد نور حروف تشرق على كراسات أوراقه بكلمة مديح أو ثناء .

ولذلك دعيني أخاطبك اليوم على طريقة (( ابن طوبال )) ، فأشعل الذاكرة بخيباتي الكتابية من قبلك ، والتي بدأت تحديدا وأنا في الخامسة عشر من عمري ، حين وبخني أستاذ اللغة العربية أمام الطلاب على سرقتي لموضوع تعبير من مقالة في مجلة لا يعلم مصدرها ، ولم يسبق له قراءتها ، فأقسمت له ببراءة قلمي من اتهامه ، ولكنه أصر على منحي درجة متدنية ، وأذعنت يائسا لعقوبة أول جريمة كتابية اقترفتها ، بعدما كنت أظن أنني أرسم لوحتي الأدبية الأولى .

وبعد عام واحد فقط ، لجأت إلى الأوراق البيضاء تارة أخرى ، لعلها تقنع حبيبتي الأولى بالعدول عن قرارها في الهجران ، فكتبت أول رسالة حب ، وترجمت بحرص شديد ، لغة القلب والروح بعد رحيلها ، ودموعا ما جفت في مآقيها ، وأياما ترفض حياة لا تحتويها ، وعهدا لن تنحل عقدته مهما طال غيابها ، فكان ردها على رسالتي مؤثرا حقا ، إذ ضج بيتها بزغاريد خطبتها على رجل يعمل في بلد نفطية ، وحينها لعنت قلمي الذي كلما لامس الورق ، أثخن حياتي بالحزن واليأس والخيبة .

وبعد ثلاثة أعوام ، انقطعت الأخبار بيني وبين صديق هاجر البلاد ، وكنت مشتاقا له أشد الاشتياق ، وما كنا نعلم حينها مكان القرية التي سيلتقي فيها العالم وهم جالسون في بيوتهم ، فكان لامناص من الكتابة مجددا على الورق ، ورجوت القلم أن يساعدني في استفزاز مشاعر الحنين لدى صديقي حال تسلمه لبرقيتي المسجلة بعنوان بارز يدعى الإشتياق ، ولكن جمال القارة العجوز كان كفيلا بإلقاء رسالتي في أقرب سلة مهملات ، ليتجدد موعد الخيبات الذي بات مرتبطا بالكتابة .

ومضى عقد من الزمان ، والخيبات تطاردني في كل ميدان ، ولكن عشقي المجنون للكتابة ظل ملتهبا لا تخمده ثلوج اليأس والحرمان ، فأعدت ترتيب الأفكار والتساؤلات التي شغلت حياتي لثلاثة عقود من الزمان ، وبدأت أكتب تدوينة تلو الأخرى ، حتى أتيت في الأول من نوفمبر ، مخالفة كل قوانين الإحباط التي لازمتني في مشواري الكتابي ، لتكتبي بقلمك الرائع توصية تزكين فيها قلمي ، ومن فرط سعادتي وأنا أقرأ حروفك في ذلك اليوم ، لم ألتفت إلى أستاذ اللغة العربية الذي لا يفتأ ذكرا لقصتي في كل مجلس مع زملائه المتقاعدين وهم يلعبون النرد في المقهى ، وإلى حبيبتي الأولى وهي تتحسر في حديثها مع جاراتها عن أمنياتها بكلام عذب تسمعه من زوجها ويكون شبيها لرسالة قرأتها في أيام مراهقتها ، و صديقي الذي أضافني على قائمته في الفيس بوك وهو يفرط في ارسال حنينه لأيامنا الماضية ، فذلك كله لا يضاهي فخري واعتزازي بشهادتك التي جعلت موعدا استثنائيا للفرح يتزامن مع لحظة كتابية لقلم أجهدته الخيبات .

هذه التدوينة مهداة إلى الأميرة القوقازية (( هدايه )) صاحبة مدونة (( orangee ))

الجمعة، 16 ديسمبر 2011

على خطى " فلورينتينو "


منذ خمسة عقود و أنا أستجدي لقاءنا الموعود ، وقفت أمام كل الأبواب الموصدة ، وما أذعنت لليأس من انفراج أقفالها ، ومشيت في درب قد طال فيه المسير ، عازما على الوصول إليك ، غير مكترث بمحطات العمر التي جاوزتها خطوات أيامي المتلهفة للقائك ، فشحذت الأمل بقلبي ، وحملت على أكتاف روحي الصبر ، لأجدد لك مع فجر كل يوم جديد ، قسمي الأبدي بحبك .

مضى العقد الأول وأنا أبحث عنك ، أنام وأصحو ولا أهذي بكلمات لا تبدأ بحروف اسمك ، ألتهم دواوين الشعر ، وأعيش تفاصيل كل روايات الحب ، وأسهر على آهات العندليب و مواويل القيصر ، دون أن يشغل حيز تفكيري من المستقبل أي هدف لا يتقاطع مع رغبتي الجامحة في إيجادك ، وفي ذات قدر متأخر ، عثرت عليك وأنت ترتدين طرحتك البيضاء وتزفين عروسا لرجل غيري .

في العقد الثاني ، كنت كالطيور المهاجرة أتنقل من أرض امرأة إلى أخرى ، وعبثا كان تأقلم القلب بأجواء حبهن ، مما استدعى رحيلي المتواصل في ليالي الفراق خلسة وعلى رؤوس أصابعي ، فلا التفت ورائي خشية الحنث بقسمي الأبدي حين أشاهد دموعا تسألني عدم الرحيل ، وعندها أجوب كل أراضي النساء المترامية أمام بصري ، ولا أغفل الالتفاف بحرص حول أرضك المحرمة على قلبي أن يطأها ، وتحديدا في الوقت الذي كنت تحتفلين فيه بعيد أمومتك الأول فالثاني ، وأنا أقف على حدود أرضك أراقب ذلك كله ، وازداد إصرارا وعزيمة على إدراك اليوم الذي قد يجمعنا .

وجاء العقد الثالث وما أقحمتك بمعاناة الانتظار ، بل كنت اكتفي بمشاهدتك من بعيد ، والاطمئنان على دوران عجلة أيامك في مسار سعيد ، وعلى الرغم من أنني كنت استشعر دنو لحظات الشباب عن الرحيل ، إلا أن حبك في قلبي ظل فتيا ، لا تسري إليه أعراض الهرم قط .

وعند العقد الرابع اشتعل الرأس شيبا ، وأنا لا أزال أمشي في دربك وأتعثر بالفراغ ، حتى أصبحت أخشى في كل محاولة أواصل فيها المسير ، أن أجد صدر الموت يضمني عوضا عن صدرك الذي قضيت أربعين عاما وأنا أتمنى اللجوء إليه في إقامة عشق أبدية .

وبدأ العقد الخامس من مشروع حبك المؤجل ، والذي عجزت عن إتمامه طوال تلك الأيام والسنين ، وأنت حينها كنت تضيفين لقبا جديدا إلى ألقابك ، والتي حالت دوما بين قلبي وقلبك ، فمن زوجة إلى أم وأخيرا إلى جده ، ومع هذا لا استسلم قط ، ولا أتوقف عن المسير إليك ، فبمجرد أن أتذكر دنو الأجل ، كان حبك يزداد كثافة في قلبي ، فغدوت به كحصن منيع ضد الشيخوخة المستفحلة في شتى أركان جسدي ، غير آبه بمعاناتي الممتدة لنصف قرن من السنين ، والتي عاهدت نفسي أن ألقي بها وراء ظهري في يوم لقائك ، وأنا أجدد لك قسمي بحبي الأبدي .

ولكن وبعد كل هذا الانتظار ، يتمكن رجل آخر من اختطافك مجددا قبل وصولي إليك ، ويا له من رجل لم يكن باستطاعتي التصدي له بأي حال من الأحوال ، فهو أقوى من كل الرجال ، إنه الموت ، إلا أنني لم أبكي بل ضحكت ، فلقد أصبح يمكنني الوقوف عند شاهد قبرك ، والبوح بقسم حبي إليك دون أن أخشى البشر من حولي ، أو حجارة ضريح قبرك التي سيرتد منها صوتي ، فحبي لك كان دوما أقوى من كل الحواجز المنيعة ، وقطعا ستسمعين ندائي ، وتهبين من مرقدك كمليكة متوجة على عرش قلبي ، فأضمك إلى صدري الذي ظل خاويا منك نصف قرن من الزمان .


مستوحاة من (( الحب في زمن الكوليرا )) رائعة الروائي الكبير (( غابرييل غارسيا ماركيز ))

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

إلى امرأة الياسمين


في كل ركن من أركان ذاكرتي ، تعبق رائحة ياسمينك ، فهل آن الأوان كي أعترف لك دون مواربة أو كبرياء ، بأنني يا حبيبتي اشتاقك كلما تنفس الصبح وعسعس المساء ؟

لا زلت أذكر كل التفاصيل ، لعشق أجهض في رحم الواقع ، ولقصيدة حب خطتها قلوبنا على كراسات القهر والحرمان ، ولهذا كانت السعادة في فصول حكايتنا حلما مع وقف التنفيذ .

كم كنت أتمنى لو كف المنطق في عقلك عن الدوران ، كي أضمك لصدري وأبكي على كتفك كالأطفال ، ولعلي كنت حينها سأدرك حكمة البعث من نعش الحياة التي مضت قبل لقائنا .

كيف السبيل إليك ؟ وقد أضعت كل خرائط الأمل التي قد تقودني لقلبك ، ومضيت في دروب معاكسة لدربك ، فلا حطت رحالي في أرض امرأة إلا وعزمت الرحيل كي أبحث عنك من جديد .

أين أنت الآن ؟ بل أين أنا ؟ أهو قدر يعبث بي ؟ فيجعل رجلا غيري يقطفك حين أينع زهرك ، وأنا منذ عصور أروي بذرتك بأحلامي وأنتظر حصادك في موسم من مواسم الواقع .

كلما سيداعبني عطر الياسمين ، سأظل أبكيك منتظرا معجزة تجعل الطبيعة تتضافر لتنتزعك من خلف الأسوار التي تقف حائلا بيننا ، وحتى لو استدعى ذلك أن أنتظرك دهرا ، أو أموت قهرا ، ففي كلتا الحالتين ، أنت وأنا أو أنا وأنت ، مطر وياسمين ، خلقنا لنكون معا ، فالسحاب الذي لايمطرك حمله كاذب ، والياسمين الذي لا يحتوي وجودك هو حتما زائف .

ألا زلت تتئكين على عصا المستحيل ؟ وتهشين بها أسباب الجفاء وتستعينين بها لمآرب الإذعان لصوت الضمير ، إذن ألق بها ولا تخافي أن تتلكأي في المسير ، فكل الدروب قطعا لن تكتمل نهايتها إلا بين ذراعي يا حبيبتي ، فإلى متى ستكابرين ؟

متى ستسيرين نحوي دون أن تتعثر خطواتك بسعادة قد تضيع من الآخرين ، ولماذا تكتبين على سطور أيامنا الشوق والحنين ، هل التضحية في الحب دوما تحتمل كل هذا الخسران المبين ؟

الجمعة، 2 ديسمبر 2011

سن التقاعد العربي


اكتمل نصاب العقود الستة من عمري ، أكاد لا أصدق ذلك ، إنني لا أزال على قيد الحياة ، ولم تهوي ورقة الأجل بعد ، ومع أن حالتي الصحية لم يعد فيها موضع شبر لمزيد من الأمراض الجسدية أو المعنوية ، ولكني لست مكترثا لذلك الآن ، فاليوم سأحتفل ببلوغي لسن التقاعد ، وسأحيل أوراقي إلى فضيلة محاسب الشركة ، كي أنجز معاملة مستحقات نهاية خدمتي ، والتي جاوزت الثلاثة عقود ، دون أن أتمكن خلالها من تحقيق حلم لطالما راودني براتب تختلف فيه ملامح خانته الثالثة ولو لمرة واحدة على الأقل .

ارتديت بدلتي الرسمية القاتمة اللون ، ولربما يصعب تحديد لونها على وجه الدقه ، فأنا ارتديها يوميا منذ فصل الشتاء المنصرم قبل خمسة أعوام ، وهي ملاذي في كل المناسبات من أفراح وأتراح ، ولكني أذكر أنها كانت سوداء حين اشتريتها من بائع متجول ، كان قد أقسم لي ثلاثا بأنها بضاعة تم تهريبها من اسطنبول وذلك كي لا تأخذني الهواجس والظنون وأجزم أنها قادمة من بكين .

حاولت تجنب مواجهة المرآة قبل خروجي من المنزل ، فلا أشاهد وجهي المتآكل بالتجعدات ، وعيوني الذابلة وما يحيط بها من هالات ، وشفتي المزمومتين وما تخفيان وراءهما من أسنان زائفة ، وعنقي المترهلة وقد انغرست بين كتفي المتهدلين ، وتلك السماعة اللعينة التي تحيط بأذني اليمنى ، وبقايا الشعر الأبيض الذي بالكاد يغطي ثلث مساحة رأسي ، نعم لقد بلغت من الكبر عتيا ، وتكفي نظرة خاطفة إلى الصورة المعلقة على الجدار منذ يوم زفافي كي أدرك أنني قدم في الدنيا وأخرى في القبر .

اتكأت على عصاي واسندت مايمكن اسناده من ظهري المحدودب ، ومضيت قاصدا مكان عملي ، ممتطيا حافلة النقل العام بعد أن نطقت بالشهادتين ودعوت المولى بحسن الختام وذلك عندما تدافعت من أمامي الرؤوس والأقدام بمجرد وصول الحافلة ، ولولا تدخل أهل الخير الذين هبوا لنجدتي قبل الغرق في ذلك السيل البشري الزاحف ، لكنت الآن أرقد في قبري مع زملائي الذين التحقت وإياهم بالعمل في التاريخ ذاته ، و لكنهم رحلوا عن الدنيا قبل بلوغهم لسن التقاعد المرتقب .

أبحرت في خيالي وأنا أنظر من نافذة الحافلة ، بمباراة الدوري الالماني التي شاهدتها قبل يومين وذلك عندما كانت كاميرا التصوير تتحرش بوجوه الجماهير قبل انطلاقة صافرة الحكم ، وتحديدا برجل وزوجته يتقاطعان معي في سنين العمر و يترقبان المباراة بمنتهى اللهفة ، وذراعه تحيط كتفها وقد مال رأسها على صدره ، فابتسمت ساخرا من ذلك التناقض العجيب بين بشر يقبلون على الحياة من جديد بعد بلوغهم لسن التقاعد وبين بشر اعتزلوا مباهج الحياة قبل التقاعد وبعده ، مع استثناء من يموت قهرا من الاحباط واليأس وهو لايزال في ريعان الشباب .

وصلت إلى مقر الشركة ، وألقيت التحية على موظف الأمن المتقاعد من الجيش قبل عشرة أعوام ، والذي لطالما كان يؤكد لي أن هذه الوظيفة تحتاج لخبرة رجل مثله وليس لشاب غر لا يفقه في العمل الأمني والعسكري ، وعندما دخلت البوابة الرئيسة للشركة ، استوقفني صوت أنثوي عذب قادم من نافذة الاستعلامات ، (( عفوا عمو ... كيف بقدر أخدمك )) ، التفت خلفي فوجدت فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ، وقد تدثر وجهها بمساحيق تجميلية تشبه إلى حد بعيد ما يستخدمه المهرجون في السيرك وقد امتد من خلف غطاء رأسها ما يشبه سنام الجمل ، اقتربت منها مندهشا وسألتها عن الموظفة السابقة (( أم سليم )) ، فأخبرتني أنها اصيبت بشلل نصفي بعد تعرضها لحادث سير ، فدعوت لها بالشفاء العاجل وأكدت لها أنني موظف قد تقاعد من الشركة حديثا وجئت قاصدا قسم المحاسبة لاتمام معاملة تقاعدي ، فطلبت مني الانتظار قليلا حتى تعلمهم بقدومي ، ولكن جرس هاتفها قطع حديثنا ، استأذنتني للرد وكانت المكالمة الواردة على مايبدو من صديقتها ، ومالبثت ان احتدت مؤكدة موافقتها المبدئية على تقاضي هذا الراتب ، والذي اكتشفت أنه يضاهي ضعف راتبي عندما أنهيت مشوار خدمتي في هذه الشركة الموقرة .

وبعد أن غادرت نافذة الاستعلامات ووصلت إلى دائرة المحاسبة ، استقبلني وبكل ود رئيس القسم (( أبو سمير )) بابتسامته المعتادة التي تفضح دوما صف أسنانه الأمامية البائدة منذ أمد بعيد ، ولقد تفاجأت وأنا أتمعن بتفاصيل جسده التي كانت مختزنة دوما بالشحوم والدهون ، أنها قد تضآلت وتكاد تختفي تماما ، فسألته عن سبب نقصان وزنه ، فتنهد بحسرة ، ليخبرني أنه أصيب بالسكري والضغط والبواسير في أقل من شهر واحد ، فدعوت له أيضا بالشفاء و أشفقت على حاله ، فهو لايزال يقف قبل محطة التقاعد بعقدين .

وبعد أن احتسينا كوبين من الأعشاب التي لم تحظر بعد من قائمة مشروباتنا ، قدم لي (( أبو سمير )) الشيك الخاص بمكافأة نهاية الخدمة والذي كان يمثل بمجموعه استحقاق ثلاثة رواتب وفقا للحد الأدنى في قوانين العمل ، وعندها فقدت آخر جرعة من الصبر وضقت ذرعا من هذا الظلم الذي سكت عنه منذ عقود ، فلطمت (( أبا سمير )) واعملت عصاي على رأسه العاري من الشعر وأنا أصرخ بأعلى صوتي : (( كفاكم ظلما ... كفاكم ظلما ... نريد حقنا في أن نعيش )) .

صرخت زوجتي مذعورة وبأعلى صوتها : (( استيقظ يا رجل )) ، فصحوت من نومي مذعورا ، ونظرت إلى زوجتي فوجدت أنها لا تزال في ريعان الشباب ، وتأملت وجهي في المرآة سريعا ، فاكتشفت أن ملامحي لم تتغير عن صورة يوم زفافي بعد ، حمدت رب العالمين واستعذت به من الشيطان الرجيم ، ونهضت إلى المطبخ كي أشرب كوبا من الماء وعرجت في طريقي إلى باب المنزل كي أحضر الصحيفة ، وإذ بي أقرأ عنوانا مكتوبا وبالخط العريض ، ألا وهو قرار مديرية التقاعد برفع سن التقاعد خمس أعوام أضافية ليصبح ستة عقود ونصف عقد من السنين ، فضحكت ملء فمي وبكيت حتى اغرورقت عيوني بدموعها ، فمن هو سعيد الحظ الذي سيظل على قيد الحياة حتى بلوغ سن التقاعد الجديد ؟

الجمعة، 25 نوفمبر 2011

مدارس البنات " قصة من وحي الفقر "


انبعثت الشمس من مرقدها ، وتناثرت خيوطها الذهبية في غسق الليل الراكد ، وتوارى القمر بتؤدة من كبد السماء ، فأشرقت الأرض بنور ربها ، واصطفت الطيور تشدو فوق الأغصان بصوت عذب لا يلبث أن تبتلعه المدينة بضجيجها المتعاقب على مدار النهار ، أما البيوت فلا يزال الهدوء الذي يخيم أركانها ، تترصده أجراس الساعات المتأهبة في موعدها الثابت لاستدعاء الناس مجددا للحياة والسعي في مناكبها ، فذلك موظف يسارع في الخروج من منزله باكرا كي يدرك حافلة النقل العام ، وتلك أم توقظ أولادها بقبلات على جباهم الندية وتحفزهم للنهوض بنشاط للمدرسة عند تذكيرهم باقتراب موعد العطلة الأسبوعية ، وذلك شاب وفتاة ينقبان ثلاثة صحف رسمية على الأقل ، ويدونان كل أرقام الهواتف التي قد تعبد لهما درب وظيفة يبحثان عنها منذ سنين ، وذلك على أمل إكمال نصف دينهما عند ولوج أول منعطف في تلك الطريق ، وذاك كهل لاتكاد قدميه تعينانه على الوقوف ، يستجدي دوره في طابور التأمين الصحي ولايدري إن كان الوقت سيسعفه في إدراك نافذة قبول المعاملات أم ستسقط أوراق حياته في يد ملك الموت قبل الوصول ، وهكذا تزدحم المدينة وتتعالى فيها أصوات الناس في الطرقات ، وكل يسبح في فلك حياته الرتيبة ويمني النفس بيوم قد يأتي متمردا ويعد بحياة أفضل .

وفي باحات المدارس يقف الطلاب والطالبات في طوابيرهم الصباحية أمام مدير متجهم الوجه أو مديرة لا تتقن ملامح وجهها سوى العبوس في وجوه طالباتها ، ولقد حدثت مأساة (( حنين )) في إحدى تلك الطوابير الصباحية ، وذلك عندما استدعتها المديرة للوقوف أمام جميع الطالبات وانهالت عليها بشتائم ما أنزل الله بها من سلطان ، و (( حنين )) تقف خافضة رأسها لا تجرؤ على النظر في وجوه صديقاتها وهي تتلقى دون هوادة كل تلك الإهانات ، حتى أنها لم تفكر بالدفاع عن نفسها عن ذنب لم تقترفه بإرادتها ، مما حدى بالمديرة إلى اتخاذ قرار طردها وهي مرتاحة الضمير ، فلقد حذرتها مرارا من أنها ستفعل ذلك إن لم ترتدي (( حنين )) الزي المدرسي ، ولا شك أن (( حنين )) وهي تتعرض لذلك الموقف المهين ، كانت تتمنى لو أن الأرض قد انشقت وابتلعتها ، فهي ليست متمردة على الأنظمة والقوانين ، بل إنها تعلم علم اليقين ، أن والدها لو كان على قيد الحياة لما تأخر لحظة واحدة عن شراء الزي المدرسي لها ، فهل الذنب هو ذنب والدتها التي لا تملك من الدنيا سوى راتب تقاعدي بالكاد يكفي لاطعام (( حنين )) وإخوتها ؟

ولم يكن مصير صديقتها (( أمل )) بأفضل منها ، وذلك حين وقعت في براثن المديرة عند نهاية فترة استراحة الطعام ، وذلك عندما وجدتها تعبث في سلة المهملات ، ولقد ظلت تصرخ في وجهها وتضغط بأظفارها المتسخة على ذراعها الصغير ، لعلها تكتشف سرها وتعترف لها بالذي كانت تحاول إخفاءه في سلة المهملات ، ولكن (( أمل )) لاذت في غياهب الصمت وأبت الرضوخ لتهديدات المديرة ووعيدها ، وحينها لم تتردد المديرة أيضا باتخاذ قرار الطرد مجددا بحق (( أمل )) وعدم عودتها إلى المدرسة إلا برفقة ولي أمرها ، فخرجت (( أمل )) من المدرسة والدموع منهمرة فوق وجنتيها الرقيقتين ، ولكن حزنها في تلك اللحظات لم يكن سببه قرار الطرد ، بل هو الإشفاق والخوف على والدها الكفيف إذا اعترفت له بحقيقة مصدر الطعام الذي كانت تحضره له في كل يوم بعد عودتها من المدرسة ، فكيف يمكنها أن تقول له أنها كانت تطعمه من بقايا فضلات زميلاتها ؟

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

الأمانة


كان حلما وربما قد تحقق ، وهذا هو حال كل رجل ذي حظ عاثر ، لا يتمكن من توثيق ما يتمناه من أحلام في دفاتر الواقع ، فلماذا تحقق ذلك الكابوس الذي زف له خبر ارتباطها بغيره ؟

هل خان الأمانة ونكث بالعهد ؟

أم أن قلبها ارتضى بعاشق أمين يحفظها ويصونها بعيدا عن خزائن قلبه ؟

ولكن ألا كانت ترغب بترصيد حساباتها العاطفية ومراجعة فواتير ذكرياتها قبل أن تعقد العزم على الرحيل ؟

أم أنه الصفح عند المقدرة و (( المسامح كريم )) ؟

ما كان بيده سوى الإذعان لرغبتها ، ولكنه قرر أن يقدم لها تقريره العشقي الذي قد يكون الأخير ، فكتب لها قائلا :

في هذه الليلة كانت زخة المطر الأولى ، فجلست أمام النافذة وتأملت القمر المختبىء خلف ستارات الغيوم ، واستجديته أن يبعث لك بهذه الكلمات ، والتي ما تجرأت بالبوح بها مذ يوم رحيلك ، ليس غرورا ولا زهوا ولا كبرياء ، و إنما هي بقايا من أمل كنت أعتقد أنها قد تستدعي حضورك من بين ثنايا الغياب .

ما تعودت أن ألقي بقلبي وأعرضه بثمن بخس ، ولست مكترثا إن انتهت صلاحية نبضاته المفترضة للحب ، وغدا بعدها كبضاعة كاسدة أمام قلوب النساء ، فإن قلبك إذا ما كان هو المشتري ، فلن يجدي حينها الاستدراك .

أحقا أحببت رجلا غيري ؟

أم أن (( البعيد عن العين ... بعيد عن القلب )) ؟

إذا كان هذا ما يفسر غيابك ، فالأمانة قيد التسليم ، ولك أن تستردي قلبك في أي وقت ترغبين ، ولكن قبل أن يأتي موعد الاستلام والتسليم ، دعيني في هذه الليلة أنام مطمئنا ولآخر مرة بين ذراعيك ، ولا تتركي يداي المرتعشتان شوقا إليك ، دعيني أقبل أناملك التي خطتني حبيبا لك في يوم من الأيام ، ودعيني أبكيك كالأطفال عندما يتهيأون للحظة الفطام ، فعندما ستشرق شمس الشتاء ، تكون الحكاية قد انتهت ، ولك حينها أن تنتزعي قلبك من أحشائي وترحلين .

لن أطالبك بدية لدم فؤادي المهدور ، فأنا لست أول ضحايا الحب ، ولن أكون حتما الأخير ، ولكن لست أدري لماذا معادلة الحب دوما غير متوازنة ؟

ربما قد آن الأوان لتغيير كل مصطلحات العشق ، فأنا وبعد هذا اليوم ، لن أبحث عن الحب ، بل سأجعله يبحث عني ، ولن أرضى بدور العاشق في مسرحية الحب ، بل سأكون أنا المعشوق ، ولست منذ هذه اللحظة حافظا أمينا لودائع القلوب ، فأنا لست كفؤا لهذا المنصب ، وأعلن استقالتي والتنحي عن مقعده لرجل غيري .

والآن قلبي برسم الأمانة ، فهل من امرأة أودعه إليها ؟ تحفظه وترعاه وتصونه ، وتتقن تلك المهمة التي عجزت أنا عن القيام بها ، ولكنني سأحذرها مسبقا من شرط جزائي قبل توقيع عقود الحب ، فلا تطالبني بتسديد رسوم عشقية مستحقة الدفع ، لأنني من بعدك أشهرت إفلاسي العاطفي .

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

كل عام وأنت عيدي



عندما يتأهب العيد للحضور في موعده المتغير من كل عام ، لا يكون ذلك بالضرورة مدعاة لاضطراب طقوس الناس في استقباله ، فالأسواق ستعج بالنساء والأطفال ، والطرقات ستزدحم بالمركبات ، ومحلات الحلويات والقهوة العربية ستمتلىء عن بكرة أبيها ، والصحف ستختزل مساحات شاسعة من عناوينها السياسية الرتيبة ، لتستوعب صفحاتها الترويج لعروض الرحلات السياحية واعلانات أسعار الأضاحي المنافسة في هذا العام بشكل غير مسبوق وبرامجها التقسيطية المريحة .

والجميع يتحفز للمناسبة السعيدة ويلقي وراء ظهره عبء التفكير الذي يلازمه على مدار العام ، فلا وقت الآن للتذمر من غلاء المعيشة وجنون الأسعار ، ولابأس في إرجاء الاستياء من تدهور الحال العام ، فالدنيا عيد وهذا مسوغ كاف لفرح طارىء ، يتم اختطافه عنوة من بين أضراس الشهور والأيام .

لا شك أن رتابة الأيام ستتعطل حركة سيرها في درب العيد ، وهذا سيجعل الفرصة مواتية لاغتنام لحظات من العمر المهدور ، لتحقيق مآرب استثنائية لا تتكرر ، فالزوج سيتمكن من التبسم في وجه زوجته وهما يحتسيان معا فنجان القهوة في الصباح ، والأولاد سيفرحون برؤية أبيهم في يوم غير يوم الجمعة ، والجيران سيقبلون بعضهم البعض ، والأرحام لن تشكو من القطيعة ، والناس لن تتعارك كعادتها في الطرقات ، فالكل خدر بالتسامح والمحبة وليس مشحونا بالتوتر والعصبية والمزاج السيء الملاصق لهم على مدار العام .

وأعتقد أن الحلاقين في هذه الأيام ستزول عنهم أعراض الاستياء من جفاء زبائنهم المتتابع لهم في الآونة الأخيرة ، وخصوصا مع تغير الجدول الزمني لمواعيد الحلاقة التي كانت في أحسن حالاتها لا تتجاوز الثلاثين يوما ، لتصبح حاليا من شهرين إلى ثلاثة شهور ، حتى بات الحلاقون لا يميزون ملامح زبائنهم كلما حضروا إليهم بعد طول غياب ، وكأنهم كانوا يرقدون في رقيم أهل الكهف ، وهذا إنما يؤكد على مصداقية المثل القائل (( الناس ما معها تحلق )) .

الدنيا عيد ، وأنا ألاحظ أنني احتفي بقدومه في هذا العام بنشوة استثنائية ، وليس ذلك بسبب فتاة بغدادية أطالت التحديق بي في أثناء مروري العابر من أمام طاولتها في أحد المولات التجارية ، وليس ثمة ارتباط لهذا بقدرتي على تلبية نداء أشواقي المتداعية لدمشق ، والتي ما وطأتها منذ عيد الأضحى في العام الماضي ، ولا اعتقد أنه بإمكاني تعليل ذلك بملاءتي المالية التي تجعلني لا أتردد في الاتصال بأرقام الهواتف المدرجة في متن عروض الرحلات السياحية ، فأغمض عيني وأفتحها لأجد نفسي في رحلة روح علاجية .

أستطيع اليوم أن أجتهد في الإجابة وأسترسل في وصف حالي بعد لقائك ، ففرحتي لن يفسرها إلا أنت ،
ولذلك دعيني أخالف كل الأجواء المتعارف عليها ، وأهرب من أزقة الأسواق وأزمات المرور ، كي اختبىء بين ذراعيك وأقول لك بعفوية الأطفال (( كل عام وأنت عيدي )) .

أتمنى للجميع عيدا مباركا ... ويتجدد لقاؤنا بمشيئة الله تعالى يوم الجمعة الموافق 18/11/2011

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

نور


في منتصف الشهر الأخير من عام 2009 ، وبدعم ومساندة وتشجيع من صديق العمر النادر ( نادر أحمد ) الذي لا تزال قصة صداقتنا تكتب في كل يوم سطورها الخالدة ، بدأت رحلتي في عالم التدوين ، وكم كنت حينها خائفا من الخوض في غمار هذه التجربة ، ليس بسبب خوفي من الدروب المجهولة التي كنت على وشك المسير فيها ، بل لأنني كنت الرجل الصامت دوما أمام كل الأحداث التي مضت في حياتي كفيلم سينمائي كانت مشاهداته في عجلة من أمرها لحظة العرض .

عندما كتبت إدراجي الأول عن علاقة الأخ بأخته ، والذي تصادف يوم كتابته بذكرى مصرع شقيقتي الذي شهدت تفاصيله وأنا لم أكن حينها قد تجاوزت عامي الثالث ، بكيت ملء قلبي وراودني إحساس غريب ما شعرت به من قبل ذلك قط ، فكم كنت أتمنى في تلك اللحظات لو أنها كانت لا تزال على قيد الحياة ، أقسم أنني كنت لن أتردد في تقبيل الأرض تحت موطىء قدميها ، ولكنها رحلت قبل أن تكمل منتصف العقد الثاني من مشوارها القصير في هذه الحياة ، وعلى الرغم من مضي كل هذه السنين ، إلا أنني في كل ليلة أعتذر لها عن صغر سني الذي لم يمكني من مجرد محاولة إنقاذها وهي تختنق في الحمام من انبعاث سموم السخان ، ولذلك كتبت لها مرة أخرى بعد عشر شهور لعلي أجد لي مناصا بين الحروف والكلمات ، فلم أجد قلمي يبدأ إلا بعبارة واحدة (( عذرا يا أختاه )) .

وفي خضم الحالة النفسية السيئة التي أشعلها قلم الذكريات ، حضر أول زائر لمدونتي ، أو بمعنى أصح أول زائرة ، إنها من أطلقت عليها لقب (( نوارة المدونة )) ، إنها نور ما بعده نور ، ففي ذلك اليوم تحديدا وأنا ارتجف من برد أحزاني ، جاء تعليقها كوسادة دافئة غمرتني بالحنان واللطف ، واكتملت فرحتي بتشجيعها ومساندتها لي كي أكتب وأكتب ، فكانت المرأة التي حفزت قلمي للبوح بما يختلج صدري من كلام كنت قد ردمته بتراب اليأس بعد استهزاء وسخرية لجنة التحكيم من قلمي في سنتي الجامعية الأولى حين نظمت أول قصيدة شعر .

اليوم يا نور لابد من الاعتذار منك ، فهذا الإدراج كان يتوجب كتابته منذ أمد بعيد ، فوجودك إلى جانبي مع مرور كل هذه الأيام ، ووفاؤك لكتاباتي في زمن ضاع فيه الوفاء ، تضيق أمامه لغتي ولاتسعفها مفرداتها كي تعبر لك عن مكانتك عندي ، ولربما يكون أصدق القول ، أنك من جعلت لقلمي نبضا وروحا ، بل أنت من سهرت على تربيته وهو لايزال في المهد صبيا ، حتى بدأ ينضج ويشتد عوده ، ومع ذلك لم تفارقيه البتة ، وكأنه ولدك وأنت أمه .

أتذكرين يا نور سجالاتنا الفكرية ومناقشاتنا المطولة بعد كل إدراج ، كنت في كل يوم أتعلم منك درسا جديدا في تجارب الدنيا ومعارفها الحياتية ، وعلى الرغم من أنك أصغر مني بثلاثة أعوام ، ولكنك كنت دوما تبهرينني بثقافتك وسعة تجاربك ، وكأنك تكبرينني بثلاثين عام .

ومع أنك تقطنين في النصف الآخر من الكرة الأرضية إلا أن ذلك لم يقف حائلا لتكوني رفيقة مشواري الكتابي في السراء والضراء ، و كلماتك لم تتوانى عن رسم أجمل لوحات الوفاء عند نهاية كل تدوينة كنت أكتبها ، حتى مضت بنا فصول السنة وتعاقبت مناسباتها ، ونحن على حالنا ، قلم يكتب وحبر يسانده كي لا ينضب .

في النهاية لا يسعني إلا القول : (( أن الأشخاص الذين يحيطون بنا يشبهون الكتب ، فمنهم من يغريك مظهر تصميم غلافه و مقدمة حروفه المنمقة بعناية فائقة ، إلا أنه وبمجرد تقليبك لصفحات ذاك الكتاب ، تدرك كم كنت مخطئا في لهفتك على قراءته ، وهناك كتب تتوسطها عناوين عريضة ، تجذبك إليها كالمغناطيس ، ولكنك تندهش أن متوالية كلماتها بعد ذلك لا تمت لذلك العنوان بأية صلة ، وهناك كتب لا تسأم مرافقتها وتكرار قراءتها والتعلم منها والاحتفاظ بها في صدر مكتبتك حتى تجد نفسك وقد توحدت مع سطورها في أفكارك ومشاعرك وتصبح لك مرجعا في العديد من شؤون حياتك ، وأنت يا نور بالنسبة لي مثل ذلك الكتاب تماما )) .

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

حالي في غيابك


أجلس وحيدا أمام بحر أحلامي ، و أتأمل الأمواج وهي تزحف نحوي بخجل ، أرفع هامتي إلى السماء المتلبدة بالغيوم ، وألتفت من حولي إلى أغصان الأشجار العارية ، فأجد عصفورا يشاطرني صمت اللحظات ، وحينها أسأل الطبيعة بصوت تعتريه الخيبات ، عن سبب استحالة حضورك كلما ارتعش قلبي بمناجاتك .

أهوي بقبضتي على حبات الرمال وأستذكر معها قسمي عندما شبهتها بالنساء من بعدك ، ولا غرو أنه يخيل لي بين الفينة والأخرى أنك ستثبين أمامي كحورية قادمة من أعماق البحار ، بل لربما أتمادى في خيالي وأجد طائرا أسطوريا كالعنقاء يعينني على الإتيان بك قبل تتابع نبضتين من نبضات قلبي المحترقة شوقا إليك .

حالتي في عشقك عصية على الفهم والتفسير ، فكلما اغترف قلبي من مياه حبك ، أجده وقد اشتد به الظمأ أكثر ، فكم يلزم قلبي أن ترويه إذن ، كي يتخلص من تصحره العاطفي في غيابك ؟

كم أتمنى في كل ليلة لو كان باستطاعتي الوقوف أمام نافذة بيتك ، ومراقبتك وأنت غافية كالملائكة على وسادتك ، فاستنشق عبير أنفاسك ، وأقبل موضع كل أثر لامسته أناملك ، ولاضير إن تثاءب الفجر وتكاسل عن موعده في الحضور ، فكل دقيقة سيتأخرها تهبني ألف عام من نشوتي بقربك .

قولي لي ماذا أفعل بأشواقي المتداعية في بعدك ؟ ألا تدرين أنني في مرحلة متقدمة من الإدمان على حبك ؟ ولا يسعني إلا الجنون والهذيان كلما تباعدت الجرعات التي أنعم فيها بوصلك .

إن قلبي الآن يحتضر ، وأنت أقرب إليه من حبل الوريد ، فهبي لنجدته ولا تترددين ، فهو بقربك سيدخل جنة الحياة ويكون فيها من أصحاب اليمين ، وأما في بعدك فمصيره في هذه الحياة جهنم وبئس المصير .

الجمعة، 14 أكتوبر 2011

أماه غني ... زغردي


قميصي ما قد من دبر ولا من قبل ، فلقد ادخرته ليوم كهذا ، خذوه لأمي ، وكفكفوا به دموع عينيها التي ابيضت وهي تنتظر عودتي ، وقولوا لها أن حلمها البارحة ما كان أضغاث أحلام ، فأنا بمشيئة الله تعالى قادم إليها ، وسأحطم قضبان سجونهم التي حجبت شمس لقائنا منذ ثلاثة عقود .

صبرك الجميل في غيابي سيكمل عدته ويرحل راضيا مرضيا ، فاخلعي ثوبك الاسود يا أمي وغني وزغردي وزيني باب الدار ، واشعلي الموقد لتطعميني بيديك ، ودقي البن بالهاون ، فكم أنا مشتاق لفنجان قهوتك يا أمي .

لا زلت أذكر يوم اعتقالي وكأنه حدث بالأمس ، ولازلت أذكر جسدك الذي حال بيني وبين أجسادهم المدججة بالسلاح ، ولازلت أسمع آهاتك وهم يدفعون بي مكبلا بأغلالهم خارج فناء الدار ، لم أتمكن ولأول مرة في حياتي من تلبية نداءك يا أمي وأنت بحرقة تصرخين : (( ولدي ... ولدي ... ولدي )) .

أعوام مضت وأنا في سجونهم ، وذاكرتي تتهالك فيها صور الزمن الجميل لأيام حريتي ، حتى كدت أنسى كيف يكون العالم خارج جدران السجن ، ولكن داء النسيان كانت تستقر أعراضه كلما تذكرت وجهك يا أمي وأنت تعدينني بالتضرع للرحمن بعودتي وأنت ساجدة في باحات المسجد الأقصى .

ابعثي بسلامي يا أمي لغزة هاشم ، وقبلي ثراها الذي ما استكان لطائراتهم ودباباتهم وبوارجهم الحربية ، فبرغم كل آلامها وجراحها ، ابتلعت شاليط في جوفها ورفضت أن تلفظه دون عتق رقابنا التي طال بها الأمد في الأسر .

انتظريني أماه فإن الغد لناظره لقريب ، ولكن أسألك بالله أن لا تبكي عندما تضميني لصدرك ، بل اضحكي وزغردي ، فولدك سيدخل بمشيئة الله تعالى آمنا إلى ذراعيك ، أما أمي الحبيبة فلسطين فلست أدري متى سيدخل أبناؤها المهجرون إلى ذراعيها آمنين ؟

هذا الإدراج إهداء ومباركة مني لعائلات الأسرى الفلسطينيين الذين سيتحررون من سجون الاحتلال الاسرائيلي بمشيئة الله تعالى ...

الجمعة، 7 أكتوبر 2011

ما أسهل الشفاء منك


ما الذي دفعه للبحث عنها ؟ هل كان حقا يود الاطمئنان عليها ؟ أم أنه كان يقنع نفسه بذلك كي يخفي حقيقة ضعف مقاومته إزاء الفضول الذي كاد يفتك به وهو يحاول عابثا تقصي الحقائق عن حالها في غيابه .

نعم لقد هجرته وبملء إرادتها ولم تتعثر خطواتها التي عقدت العزم على الرحيل بمطبات الحنين أو الاشتياق ، و اختارت لنفسها حياة لا تبدأ أو تنتهي بحروف اسمه ، فأضحت غير قابلة للإلتقاط وكأن رياح حضوره كانت تهب دوما في الإتجاه المعاكس لسارية قلبها .

ولكن كيف حدث هذا ؟ وقد كان قاب قوسين أو أدنى من تسجيل أوراقه الثبوتية لدى وزارة الحب ، فصفحات سيرته كانت زاخرة بالأيام التي مضت في حياته وهو يتعلم كل المناهج العاطفية التي تؤهله لحبها ، وعندما تجاوز كل الاختبارات الأولية لمشاعرها بنجاح ، إذ به يهوي عند الاختبار الأخير في وديان الفشل .

لعلها كانت تنتظر باحتراق قدومه إليها ، و لابد أنها غارقة في بحر الندم ، ولكن كبرياء الأنثى في داخلها يمنعها من البوح بذلك ، فهي بلا شك كسائر النساء (( يتمنعن وهن الراغبات )) .

وعلى وقود تلك الكلمات ، انطلقت به سفينة الأمل للقائها مجددا ، معتقدا أنها كانت تعد نجوم السماء في حضرة غيابه ، تماما كنساء البحارة عندما يجلسن في كل ليلة أمام نوافذهن المطلة على البحر أملا بعودة سفينة رجالهن .

وحين أزف اللقاء ، لم يلاحظ تورم عينيها من تعاقب ليالي السهر عليها وهي تنتظر عودته ، ولم يطرأ أي تغيير جذري على ملامحها وكأنها صورة فوتوغرافية ملصقة في متن وثيقة رسمية ، ومع هذا تجاهل برودها الواضح ، و ظل يقنع ذاته بنظرية كبرياء الأنثى ، وأنها ليست سوى محاولات عابثة لاحتراف هيئة اللامبالاة الزائفة .

لم يمهد الطريق لسؤاله الذي ينخر رأسه منذ رحيلها ، وذلك بمحاولة استدراجها بدءا بتساؤلات فرعية ، ظنا منه أن ذلك مدعاة لاضطرابها ، تماما كتلميذ فوجىء بعد دراسة مستفيضة ، بامتحان الاستاذ الذي جاء بسؤال من خارج المنهاج .

(( أتزالين مريضة بحبي ؟ )) بادرها بذلك السؤال وابتسامة صفراء ترتدي ملامحه الطاغية في ثقتها ، ولكن ضحكتها التي دوت المكان ، كانت كإعصار اقتلع أوتاد خيمة غروره ، لتجيبه وبمنتهى البرود : (( ما أسهل الشفاء منك )) .

الجمعة، 30 سبتمبر 2011

حبيبتي وتشرين

منذ ثلاثة عقود ، والأيام والشهور والسنين تمضي في حياتي دون أن أراعيها الكثير من الاهتمام ، وتعاقبت الفصول مرارا وتكرارا ، فلا جزعت لوداع أزهار الربيع ، ولا سئمت من رتابة شمس الصيف وقسوة حرارتها التي لا تلين ، وما أشفقت على شيخوخة أوراق الأشجار في الخريف ، وما ارتوى قلبي الظمآن عند مواجهة أمطار الشتاء ولا انبعثت فيه نبضات الحب من جديد .

ومع هذا فكم دونت من أحداث وتواريخ ، قصة حبيبتي الأولى ومن سار على خطاها في وأد أملي قبل بلوغه سن الرشد العاطفي ، أمنياتي وأحلامي المهدور دمها دوما بمقصلة الواقع ، جنوني وهذياني في حوارات النفس البيزنطية ، دموعي وأحزاني على كل لحظة يتجرد فيها البشر من الإنسانية ، هيبتي وإجلالي لكل روح أبية ، سخطي وغضبي على الغرور والنرجسية ، صبري وجلدي على تخبط رياح الدنيا بحالي ، يأسي وخنوعي في مجابهة من ظلمني ، ومناسبات أفراحي الشحيحة التي ضحكت فيها ملء قلبي .

لم أؤمن يوما بضرورة السير متعمدا لجحور تلدغني كي أتقن عبورها سالما في المرة الثانية ، ورفضت الانحناء برأس طائع لوالدتي وهي تجبرني على النوم بجانب شقيقي المريض بالحصبة ، فالتقط منه العدوى التي تشطب زيارتها لجسدي مستقبلا ، وكرهت المعلم الذي واظب على ضربي بحجة خوفه على مصلحتي ، وسخرت من تقريع كبار السن لسيرتي المتمردة على نصائحهم وتوجيهاتهم ، وكفرت بالمسلمات التي لا بد من الوقوف عندها قبل البدء بأية تجربة حياتية ، وأسقطت كل الأساطير والرموز كي لا أشق طريقا قد ضجر نفسه من كثرة خطى من مشى فيه من قبلي .

أنا لا أكره الحياة ومع هذا لست متلهفا عليها ، ولكنني سأمت من الحزن الذي حرصت على مرافقته طوال حياتي ، ولهذا هجرت من يصر على معاتبتي عند كل قول أو فعل ، ونبذت النساء وراء ظهري كلما اعتقدن أنهن يمتلكن قلبي بالدموع والجفاء ، وألقيت الملح بعيدا عن طاولة طعامي ، وأغلقت المذياع والتلفاز كلما تأهبت الآهات للوثب من حناجر الغناءين ، وأتلفت ثيابي السوداء ، ومزقت كل رواية قرأتها وبعثت في نفسي الكآبة والألم ، حتى أنني استأصلت من ذاكرتي كل اللحظات التي تسببت في تكدر مزاجي واضطرابه .

واليوم سقطت آخر أوراق أيلول لتترك أغصان شجرة هذا العام عارية من الفرح ، وهذا ما كنت دوما أعتقده قبل مجيئك إلى حياتي ، فلقد تواطئت الطبيعة في ذكرى يوم ميلادك ، وأزهرت أيام حياتي بالفرحة مجددا ، فأجيبيني واصدقي القول : ألهذا كانت تتغنى فيروز بأزهار تشرين ؟

ماذا سأهديك اليوم ؟ قصيدة لنزار أم أغنية لكاظم ؟ فذاك قالها والآخر غناها : (( كل عام وأنت حبيبتي )) ، ولكن لا يا حبيبتي ، فأنا أبحث اليوم عن كلام ماقيل بعد ، وعن جملة ماسبقني فيها عاشق قط ، ولكنني من فرط فرحتي بلقائك ، تناثرت كلماتي في معجم حبك وعجزت عن جمعها في تركيب لغوي متناسق ، وكأنني عدت طفلا يتعلم النطق من جديد .

كم أتمنى أن أراك اليوم وأنت ترتدين فستانك الأحمر ، واستأذن ( Chris De Burgh ) وأتغنى بك يا سيدة النساء على أنغام غربية المزاج ، خالية من الآهات ( Lady in red ) ، وعلى منصة أحلامنا وضوء القمر يرافقنا ، سأحتفل بك وأعلن أمام الكون بأسره ، أن في مثل هذا اليوم ولدت حبيبتي .

سأجيبك اليوم لماذا أنت من اختارك قلبي ، لأنك وبكل بساطة تختلفين عن كل الشخصيات التي سأمت تكرار تواجدها في مشوار حياتي ، هم جعلوني أبكي وأنت جعلتني أضحك ، هم اعتقدوا أنني سأتأثر بهم كلما زيفوا لي عمق شخصياتهم وتعقيدات تجاربهم ، ولكنهم غفلوا أن البساطة والعفوية شيفرة العشق السرية ، هم بنوا السدود والحواجز ، ظنا منهم أن معاناتي في الوصول إليهم ستجعلني أعد آلاف الخطوات قبل العزم على فراقهم ، أما أنت فكنت على العكس تماما ، مهدت أمامي أقصر السبل التي تصل بي إلى قلبك ، وغمرتني حبا وحنانا ، فهنيئا لي بذكرى ميلادك وهنيئا لقلبي بحبك وهنيئا لأيامي بتدوين سطور السعادة التي بدأت حروفها الأولى مع حلول تشرين .

السبت، 24 سبتمبر 2011

صخرة الأحلام

في فضاءات الآمال المستحيلة ، تخلع السماء رداءها الأسود ببطء متعمد ، و تتأمل مشجب الوقت ، وكأنها لا تدري إن كانت ستأوي إلى عتمة متداعية في ألوان ثياب أخرى ، أم أنها ستختار ثوبها الأزرق ، وتشرق فيها شمس الأمل المختبئة خلف الهضاب والجبال المتصدعة من خشية المجهول ، فالنور والظلام لا يجتمعان بل يتعاقبان .

لماذا كانت تداعبها تلك الهواجس في أثناء جلوسها أمام البحر ؟ لماذا كانت تذرف الدموع وتبتسم شفتيها في آن واحد ؟ هي تعلم تماما أنها تتنفس حبه وتعشقه بجنون ، ولكنها تدرك أيضا أن كل الدروب بينهما محكمة الإغلاق ، فهي لها عالمها وهو له عالمه ، لا تراه ولا يراها ، ولكن كلاهما يدري بأن الآخر موجود ، فهل هي أنسية وهو جان ؟ أم هي جنية وهو إنسان ؟

تبتعد عيونها مجددا إلى ما وراء الأفق الممتد لتمخر عباب البحر ، فماذا تراها تنتظر ؟ أتود أن تصل سفينته إلى ميناء لهفتها المحترقة لغيابه ؟ أم أنها تخشى أن يغرق شوقا قبل الوصول إليها ؟

وتعاود عيونها معانقة الأمواج المتلاطمة على الصخرة التي كانت قابعة عليها منذ ساعات ، وأسدلت قدميها مستسلمة لمياه البحر ، فتسارعت نبضات قلبها وتتابعت تنهيدات صدرها دون انقطاع ، وأصابتها قشعريرة عصية على التفسير ، وكأن أنامله هي من تداعب قدميها ، فأغمضت عينيها وبسطت كفيها وعانقت نسمات الهواء ، وبدأت تناديه وتستجدي حضوره إليها ، وأجزلته وعودا أن لا تتركه يغادر صدرها مهما حصل .

بدأت تسمع صوته وهو يهمس في أذنيها قائلا : (( كم يلزمني أن أقول لك أحبك كي تنامي قريرة العين ... كم يلزمني أن أقسم بحروف اسمك كي تطمئني أنني لن أرضى بامرأة غيرك ... كم يلزمني أن أهذي بعشقك لتدركي أنني مذ خلقت لم ينبض قلبي بحب امرأة قبل لقائك )) .

تداعت الابتسامة فوق شفتيها الخمريتين ، وأزهرت ورود جورية على وجنتيها الخجلتين ، وعاهدته أن لا تكون قصتهما بعد اليوم أحادية العطاء ، فهي ستغمره عشقا كعشقه بل وربما أكثر ، وإذ بصوت يناديها من بعيد ، تفتح عينيها وتنهض كمن يستيقظ مفزوعا من نومه إثر كابوس مزعج ، التفت خلفها ، فأدركت أن واقعها يناديها من جديد ، ارتدت حذاءها وتركت صخرة أحلامها دون استئذان ، كتمت دموعها في صدرها وتزينت لواقعها بابتسامة زائفة .

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

عندما أحلم بك



لا عجب أنني لجأت إلى عالم الأحلام ، فما من سبيل كي ألقاك وأتحسس أناملك وهي تلتف حول ذراعي ، كطفلة أدركت الأمان بين ضلوعي ، وحينها لا يكفيك أن أربت بيد مرتجفة بالشوق على كتفيك الصغيرين ، و لا يقنعك أن أمسد جبينك بقبلة أو قبلتين ، وأضمك إلى صدري مرة أو مرتين ، وأداعب رأسك الساهي على كتفي بيد واحدة أو بكلتا اليدين ، بل إنني أظل عاجزا وأنا أجد طيفي وقد انعكس في مرآة عينيك ، أن أفسر لك كيف يشعر الرجل بعظمته وهو يقف بين يدي محبوبته .

هاتِ كفك ودعينا نرقص في عتمة الليل لا نخشى تعثر خطواتنا ، فنور وجهك يكفي ليضيء حلكة الظلام ويرسل القمر إلى دياره لأجل غير مسمى ، ولا تسأليني مترددة عن الأغنية التي سنختارها لرقصتنا ، فتنهيدتك هي اللحن وابتسامتك هي النغم .

عندما أحلم بك ، أنسى كل هموم الحياة ولايعنيني من أمرها ما يثير الكدر ، فما أسعدني بحلمي الذي ليس بمقدور ديكتاتور بشري أن ينتزعه مني ، ومع أنني على يقين بأن الواقع لن يجمعنا ، فيكفيني زهوا أنك في الحلم حبيبتي وحدي ، لا يراك أو يسمعك غيري ، ولا يشاركني فيك من هذه الدنيا أحد .

أتدرين يا حبيبتي من فرط شوقي إليك في كل نهار ، بت أتمنى لو أن الليل لا ينقضي ، كي لا ينتهي حلمي بك سريعا ويبدأ نهاري بعدها طويلا مثقلا بواقع العيش الذي فرضته أجندة الأيام الماضية في حياتي بعيدا عنك ، فبالله عليك أخبريني كيف أزجي وقتي حتى يحين موعد حلمي بك في قطع الليل السارية كلمح البصر في محجر العين ؟

كلما نظرت في وجوه النساء ، أدركت أنني لا أنتمي لأحد سواك ، فهل أوصدت باب قلبي ؟ أم أنك أخذت عهدا منه دون علمي ؟ فلا يبرح مكانه ولا ينبض إلا حين أحدثه عنك .

أحلامي بسيطة وليست في غاية التعقيد ، أحتفظ بحبك لنفسي ، وأعلم أنك ستظلين كنجمة عالية في سمائي ، فلا أنت ستهبطين للقائي ولا أنا سأصعد للقائك ، جل ما أتمناه فقط أن لا أفقدك في ليلة من ليالي أشواقي وهي تناديك بكل أسماء الحب .

سأذهب الآن إلى سريري ، وألقي بجسدي على فراشي المنهك من فرط أشواقه لك ، وأناظر السماء حتى أغفو ، ولكنني في هذا الحلم القادم لن أتمنى مجيئك وحسب ، بل سأنتظر منك أن تحدثيني عن حلمك أنت ، هل كنت فيه حبيبك ، كما أنت في كل الأحلام حبيبتي ؟

السبت، 10 سبتمبر 2011

أعلم أنك ستنساني ؟

قالت : (( أعلم أنك ستنساني ... فكثيرات هن حبيباتك ... ولكنني سأظل أذكرك كلما حان وقت الغروب ... فأنت حينها كالسماء لا تكترث لوداع الشمس ... وسأذكرك كلما جاء الخريف ... فكم هو يشبهك حين يرغم أوراق الأشجارعلى مفارقة الأغصان ... تماما كما تفعل بقلوب النساء الملتصقة بقلبك ... وسأذكرك كلما حضنت أمواج البحر قدمي العاريتين و عادت أدراجها مسرعة من حيث أتت ... تاركة لي أطلالا من ذرات ملح حضورك ... وسأذكرك كلما شاهدت طفلا يبكي ومن ثم يبتسم قبل أن تجف دموعه ... فهذا هو حالك عندما تلتقي بامرأة وجرح وداعك لسواها لم يلتئم بعد ... مهما ابتعدت لن أنساك كما ستفعل أنت )) .


عندما قلت لي هذا الكلام ، لجأت إلى كهف الصمت ، وما أسعفتني حروفي في إيجاد الرد ، ولكنني قررت اليوم أن أعترف لك بما أخفيته عنك منذ زمن ، وما كان من سبب لسكوتي سوى خوفي أن لا أكون من ارتضاه قلبك حبيبا واطمأنت له روحك رفيقا ، وها أنت تعترفين الآن بسرك ، وتلبين نداءات قلبي التي ما انفكت يوما عن التغزل بك وحدك ، فهل حقا لا تدرين إلى الآن أنك حبيبتي الأسطورية ؟


أنت في سمائي شمس لا تغيب ، وأوراقك ستكتسي غصون أيامي ولن تفارقها في شتاء أو خريف ، وأقدامك ستجدني أينما وطئت ، فلقد نثرت عشقك فوق كل حبة رمل على شواطىء البحار ، بل إنني طفل لا تجف دموعه إلا على صدر قلبك ، فكيف سأنساك وأنت تسكنين الروح وتجرين في عروقي سريان الدم ؟


كيف أنساك ؟ وأنا من قبلك ما عشت ، ومن بعدك أكون قد مت ، كيف أنساك ؟ بعد أن تذوقت حلاوة الحب ، وأدركت جنة العشق ، كيف أنساك ؟ وأنت من تستدل بك الخلائق على عنواني ، كيف أنساك ؟ وقد أغلقت كل الأبواب المؤدية إلى قلب امرأة غيرك .


أتدرين كم انتظرت حتى عثرت عليك ؟ أتدرين كم بحثت عنك ؟ أتدرين كم مضيت في دروب مجهولة للوصول إليك ؟


خانتك ظنونك صدقيني ، لأنني سألقي بكل أوراق الاعترافات في هذه اللحظة أمامك ، ولن أكترث لما قد يحدث لي بعدها ، فقد علمتني التجارب أن الاعتراف بالحب أمام المرأة مدعاة لجفائها ، ولكنني أعشقك حد الجنون ، وهذه حقيقة راسخة في تاريخ قلبي ، ولكن حذار أن تنامي قريرة العين إذا سفكت أنوثتك دماء لوعتي ، فقلبي ليس كسفينة الصحراء يكابد الظمأ طويلا ، فارويه قدر استطاعتك ، لأنه لا يتلذذ إلا بعذوبة ماء منبعه قلبك أنت .

الجمعة، 2 سبتمبر 2011

تردد أنثى


إنني في أمس الحاجة لحروف قاطعة الدلالة في قاموس كلامك ، فإما أن أكون حبيبك أو لا أكون قط ، كفاك هروبا إنني أرجوك ، فليس بمقدوري الصبر أكثر ، فأنا على شفا حفرة من السقوط في هاوية اليأس .

كم أتمنى في بعض الأحيان لو نتبادل الأدوار ، لعلي أفهم سبب وقوفك بين الجنة والنار ، وأجد إجابات قاطعة لتساؤلاتي عن سبب ابتعادك كلما شعرت بدنوك من منعطف مواجهتنا المحتمل .

أتخشين ما تخفيه لنا بوابات المستقبل ؟ فلا تتجرأين الاقتراب والمراهنة على ما قد تجدين خلفها ، أم أنك امرأة لا ترضى بأدنى خسارة ؟ و تبحثين عن صفقة عاطفية تجنين من خلالها أكبر قدر ممكن من الطمأنينة والسعادة .

لماذا تفتقدين لروح المغامرة ؟ لماذا أنت راضية بالواقع والمنطق إلى هذا الحد ؟ ألا تتمنين للحظة التحرر من طبيعتك المستقرة ؟ والهذيان في ضروب من الجنون خارج كل حسابات العقل والحكمة .

ألا تسأمين العيش في مناخ حياة واحد ؟ لماذا تفضلين رتابة ما اعتدت على فعله دوما ؟ وتتشبثين بالعصفور الذي لا يطير عن كفك بعصافيري التي تغرد فوق أشجار قلبك في كل ثانية ودقيقة .

كلما جلست لأكتب إليك ، أجد أن نهايات جملي تنتهي بعلامات الاستفهام ، فمتى سيأتي الوقت الذي سألقي فيه بكل تلك التساؤلات وراء ظهري ؟ وتجيبيني بعبارات لا تحتمل التفسير والتأويل والاجتهاد في النص .

أذكر تلك الأيام المتبعثرة بالغياب ، وأذكر سؤالي الأول حين التقينا ، حاولت جاهدا أن استعين بكلمات ترغمك على الإجابة بـ (( نعم أو لا )) ، ولكنك وبكل براعة لغوية تمكنت من المراوغة والالتفاف بعيدا عن إجابات النفي أو الايجاب القاطع ، و جعلتني مجددا أقف على ناصية الحيرة والشك ، كي لا أعرف أبدا أثر حضوري عن غيابي في حياتك .

ولازلت أذكر طرائقك في استفزاز مشاعري الملتهبة نحوك ، حين كنت دوما تبدين عدم اكتراثك لأي أنثى تتغزل بي أمامك ، بل إنك كنت تسخرين من محاولاتي العابثة في ارغامك على إظهار ما يدلني على أدنى نسبة مئوية من احتمال اشتعال فتيل ضئيل لغيرتك .

أنا لست ضعيفا أمامك وأنت لست قوية أمامي ، إنني أحاول فقط أن استكشف ما وراءك ، فأنت لا تريدين أن ارحل بعيدا عنك ، ولاتريدين أن اقترب منك كعاشق ، وأنا صدقا لا أرغب بلعب أدوار ثانوية في حياتك ، ولذلك عليك أن تختاري ، بين الحب أو اللاحب فجبن أن لا تختاري .

الجمعة، 26 أغسطس 2011

متى سيأتي العيد

حين كنت صبيا ، كنت أرتدي ثيابي الجديدة في ليلة العيد ، واستعجل النوم باكرا ، لأتجاوز الدقائق والساعات التي تفصلني عن لقاء العيد ، أستيقظ في الفجر على صوت والدي الذي يسبق وصول المؤذن إلى المسجد ، وهو يتضرع إلى الله تعالى بالفرج وسعة الرزق ، أقبل يديه ونتناول الكعك سويا إيذانا بحلول الفطر السعيد ، ونخرج مكبرين ومهللين ، متجهين إلى المسجد للصلاة ، وقبل أن يختم الشيخ خطبة العيد بالدعاء ، يستعجلني والدي للنهوض والإسراع في الخروج ، للقاء والدته وابنته اللتين ما ذرف دمعا في حياته إلا يوم أن واراهما الثرى ، ندخل المقبرة ونحن ندعو بغصة (( أنتم السابقون ونحن اللاحقون )) ، نقف على قبريهما ونتلو سورة (( يس )) ، ثم أتأمل قبر شقيقتي وأتحسسه بألم ، وأقسم لها أنني سأظل أحبها ولن أنساها مهما مضت بي السنين والأيام ، ثم نعود إلى منزلنا ونتناول وجبة الإفطار ، ونخرج لزيارة الأقارب في جولة واظبت عليها فرحا في كل عام مرتين ، وفي المساء أسارع إلى نفض محفظتي من النقود التي تجمعت فيها دون أدنى عناء ، سوى الابتسام والمسارعة بخبث الطفولة لتقبيل أقاربي ، وأخرج مع أصدقائي في نزهات لا نستطيع تحمل أعبائها المالية في سائر أيامنا الأخرى من العام ، كانت أحلامنا بسيطة وكانت أمنياتنا لا تتعدى لقاء محبوبة تتبسم لنا بخجل وهي تجلس مقابلة لنا في أرجوحة العيد .

ومضت بي الأيام ، لأكثر من عقدين من الزمان ، و أصبح والدي كهلا ولم يعد قادرا على المسير ، هجرت طقوس طفولتي وصباي ، وتعقدت أفكاري وأحلامي وأمنياتي ، أصبح زماني مملا وكئيبا ، و تغيرت مدينتي كثيرا ، أمشي في الطرقات ولكنني أشعر بالغربة ولا أجد أنني عدت قادرا على الفرح بقدوم العيد ، ما الذي حدث لي ؟

ربما أعترف اليوم أنني لست سوى شبح طفل ما عاد له وجود ، ولكنني لا زلت مؤمنا وعلى يقين أن العيد سيأتي من جديد ، ولكن متى سيأتي العيد ؟ ربما تكون هذه الاجابة في أعماق بحر امرأة لا تدرك لغاية هذه اللحظة أنها هي العيد .

الجمعة، 19 أغسطس 2011

دوما سيكون اسمك

" هذا ليس اسمي " ، اعترفت بذلك وهي تعتقد أنني سأغضب لاكتشاف حقيقة كتلك ، تماما كما يحدث مع الاولاد حين يكذبون على ذوويهم ويختلقون الأعذار لتبرير حضورهم المتأخر إلى المنزل بخمسة دقائق أو أكثر قليلا عن الموعد المقرر مسبقا وفقا لقوانين الأبوة الصارمة .


كنت على وشك الضحك حد الثمالة ، ولم يكن ذلك بسبب تسترها على حقيقة اسمها ، بل لأنني تذكرت هذا المشهد المتكرر في مسلسل حياتي في العديد من حلقاته العاطفية .


بل إنني لا زلت أذكر أول فتاة تحدثت معها ، ولازلت أذكر اضطراب جلستها أمامي وعيناها محمرة تتهيأ للبكاء ، كنت قد أقسمت لها أنني لن أخاصمها ثلاثة أيام بلياليها ، وأنني على عهد اشتياقي بها سأظل وفيا بين الدقيقة والدقيقة ، ولعل ذلك ما حفزها على النطق باعترافها الأخير أمامي ، بأنني لست حبها الأول ، فهل كان ذلك الاعتراف حقا يستدعي الاضطراب في البوح به منذ الوهلة الأولى للقائنا .


وعندما كبرت قليلا ، تواجهت مجددا مع النساء في لعبة الاعترافات الموقوتة على حسن ظنهن بامتلاك قلبي ، وعندما كانت تدعوني إحداهن إلى جلسة الاعتراف كي تلقي عن ضميرها أوزار تأنيبه ، اكتشف حقائق كان لابد من معرفتها منذ البدء وقبل المضي خطوة واحدة في درب الحب .


هناك من اعترفت لي بأنها اختزلت من عمرها الرسمي خمس سنوات في سبيل تسجيل قلبها في أجندة العاشقين ، وهناك من أكدت لي أن ثقافتها تعدل كل الشهادات التي أخبرتني مسبقا أنها تعلقها على جدران حجرتها ، وهناك من تدارت عن عيوني كي لا أعلم مكان سكناها ، وهناك من أعتقدت أن الفشل في خطبة أو زواج يعني أنها على القائمة السوداء التي لا تمكنها من التقدم مجددا لطلب الحب والحياة .


الأمر المحير بعد كل تجربة وبعد لحظات من الاعتراف المرتقب ، أن غيوم الفراق كانت تلوح في سماء قلبي وتمطره رغبة في الرحيل دون عودة ، حتى أن إحداهن قالت لي في ذات فراق (( أنا لم أكن أكذب ولكن كنت أتجمل كي أحظى بقلبك )) ، وما كان مني أمام قولها إلا الصمت والتساؤل عن سبب المراوغة والتلاعب بالحقائق منذ الخطوة الأولى التي كنا نخطوها في دروب حبنا المفترض .


واليوم أمام حبك العظيم وسرك الصغير ، أؤكد لك أنني لست غاضبا قط ، بل إنني سأغزل لك اسما من خيوط اللغة ، لم يسبق للعشاق و الشعراء أن عرفوه ، وحتى يكتمل اسمك في معجم الحب ، سأختار لك مؤقتا بعض الأسماء .


فهل أناديك (( يا عمري )) لتصدقي أنني ما عشت من قبلك ولن أعيش من بعدك ، أم أناديك (( يا حياتي )) كتأكيد لإدراكي معنى الحياة بعد لقائك ، أم أناديك (( يا حبيبتي )) كي يطمئن قلبك ولا يخشى بعد اليوم من الاعتراف بحقيقة اسمك ، فأنت حبيبتي وهذا دوما سيكون اسمك .

الجمعة، 12 أغسطس 2011

ديمقراطية الزوجات


زوج صالح كنت ، لا أعصي أمرا لزوجتي ولا أتلكؤ في تلبية طلباتها في العسر واليسر ، فلقد كنت على يقين تام بأن طاعة الزوجة حتما تودي إلى راحة البال ، وتنعكس إيجابا على كافة شؤون حياتي ، لتضمن لي عيشا هانئا مليئا بالسعادة والاستقرار .


لم أجرؤ في يوم أن أتمرد أو أعارض أو أرفض أو أتمنع أو أشكك في خوفها على الصالح الأسري العام ، فأنا لست خبيرا في تسيير الشؤون الداخلية ، ولم يسبق لي تحمل عبء مسؤولياتها ، ومن كانت يده في الماء قطعا لن تكون كمن يده في النار ، ولهذا فأنا لم اتدخل في رسم السياسات الداخلية لمسار حياتنا ، واكتفيت بالجلوس خلفها وهي تقود المركب ، مقتنعا تماما أنها ستصل بنا إلى بر الأمان .


كنت أخاف إبداء الملاحظات ، أو المناقشة في البدائل والخيارات ، فزوجتي تؤمن بأن تعدد الطهاة يفسد الطعام ، وأنا بحكم خوفي من إثارة الفتن ، عزمت أمري على اجتثاث أي صوت يدعو إلى التمرد و العصيان ، ومشيت وراءها أهتف مؤيدا ومناصرا لرجاحة قراراتها ، مستعيذا من وساوس أفكاري المضادة لعكس المسير .


حتى جاء يوم قررت فيه أن أخلع جلد خنوعي ، وأثور على ديكتاتورية زوجتي ، بعدما حدثني صديقي عن زوجته الأوروبية ، مستهجنا ما أنا فيه من ذل وهوان ، فزوجته ترعرعت في بلاد تحكمها الديمقراطية ، ولم يسبق لها أن فرضت عليه تنفيذ أي أمر لايقتنع به قط ، بل إنها تستاء من مضي يوم لا تجلس فيه مع زوجها لعقد جلسة مشورة يتباحثان فيها في الاستحقاقات الأسرية القادمة .


مضيت إلى منزلي وأنا أهتف باسقاط نظام زوجتي الظالم ، وانضم إلى ثورتي أزواج يعانون من المصاب ذاته ، وقبل وصولنا إلى مقر وزارة داخليتنا ، نشاهد صديقي وهو يركض حافي القدمين في الطريق العام ، وزوجته الاوروبية تلاحقه وفي يدها هراوة غليظة تضربه بها وتصرخ : (( سأطهر منزلي منك ... Location ... Location ... Room ... Room ... Corner ... Corner ))

السبت، 30 يوليو 2011

شروط الزواج الرمضانية

لكي تكون زوجا مثاليا ، لابد لك أن تتهيأ طيلة العام جيدا حتى تصبح زوجا استثنائيا في شهر رمضان ، فبرنامج حياتك اليومية الرتيبة ، يتطلب بعض التعديلات الطفيفة في الشهر الكريم .


لنبدأ في الحديث من أوله ، وتحديدا حين تستيقظ في الصباح الباكر مرغما ، كي تستكمل ركنا من أركان عبادتك بالسعي إلى رزقك في الأرض ، وأرجوك أن لا تتذمر وأنت ترى زوجتك تغط في سبات عميق ، فهي لم تجبرك على السهر معها حتى آذان الفجر ، وأنتما تتنقلان بلهفة من محطة فضائية إلى أخرى ، لاستطلاع آخر المستجدات على الساحة المزدحمة بالمسلسلات ، وتطيلان الجدل حول المحطة التي ترشحانها لنيل لقب ( رمضان معاها أحلى ) .


أو عندما تقضيان بضجر قاتل ، ساعات وساعات ، وأنتما تستقبلان ضيوفا لايتذكرون زيارتكما إلا في رمضان ، مما سيستدعي زخم قصص ستروى عن أخبار عام مضى ، وهذا يتطلب حسن الاصغاء لمواضيع تتشعب على جميع الأصعدة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ، وهذا العام حافل بالأخبار التي بدأت من أزقة سيدي بو زيد ، ولهذا فأنت لست بحاجة إلى مشاهدة القنوات الأخبارية ، لأن ضيوفك سيقدمون لك يوميا تقارير إخبارية مفصلة عن الأحداث من وقت الإفطار وحتى وقت السحور ، ولهذا التمس عذرا لزوجتك حين لا تجيب على اتصالاتك في اليوم التالي قبيل آذان العصر ، فلقد قضت وقتا ممتعا حتى شروق الشمس وهي تزيل آثار الضيوف الذين لا يتميزون بخفة الظل قط .


وإذا راودك النعاس عن عملك بعد آذان الظهر ، استعذ بالله ثلاثا ، واغسل وجهك ، وسارع إلى عقد حلقة من الزملاء والزميلات ، وتبادلوا المعرفة والخبرة في ورشة عمل مطولة ، حول أفضل الأماكن التي من الممكن ارتيادها ، لتقنين مصاريف ( الوحام ) من أصناف الطعام والشراب التي لا تشتهى في غير فترة الصيام .


وعندما تتجه عائدا إلى منزلك برفقة شمس الصيف الملتهبة ، لا تتأثر بما سيحصل حولك من مشاجرات بين السائقين في الأزمات المرورية المطردة في الشهر الفضيل ، فالجميع في عجلة من أمره ، ويمني النفس بالوصول إلى منزله قبل وقت الغروب .


وهذا شهر الصبر ، ولذلك حذار أن تغضب وأنت في خضم تلك الأحداث الدامية على الطرقات ، وهاتفك يصرخ باتصالات متتابعة من زوجتك ، لاحضار قائمة لا يتسع حفظها في ذاكرتك من مستلزمات وجبة غذائية سيغادر معظمها منزلك كضيف مستاء ، إلى أقرب سلة مهملات .


ولأنك ستكون زوجا استثنائيا ، لا بد أن تطأطأ رأسك وتلتزم الصمت خجلا عندما تهم إلى دخول المنزل وقد غفلت عن إحضار القائمة المطلوبة كاملة ، فصراخ زوجتك حينها لايتطلب منك إلا أن تردد عبارة واحدة وبصوت خانق (( اللهم إني صائم )) ، وتستدرك خطأك بمهلة للتصحيح ، تماما كوعود تلميذ كسول يستجدي أستاذه بفرصة للتغيير .


ولاتنس وأنت تصطف في طوابير المأكولات البقولية والحلويات والمشروبات الرمضانية ، أن تتبسم في وجه أخيك الذي يزاحم الصفوف ويعتدي على دورك الذي طال انتظاره ، بحجة تأخره عن ضيوفه المدعوين إلى مأدبة الإفطار ، فهو سيعتذر منك ويقول بصوت خاشع ورزين (( رمضان كريم )) ، وأنت عليك أن تلزم هدوئك وتجيبه بمنتهى اللطف (( الله أكرم )) .


وفي طريق عودتك المرتقبة إلى المنزل ، حاول أن تشطب من ذاكرتك كل ما حدث معك في نهارك ، وتبادر زوجتك بكلمة غزل ، فالدقائق التي تسبق آذان المغرب خطيرة جدا ، وشجار قد يحدث لأتفه الأسباب ، مدعاة لكتابة السطر الأخير من علاقة زواج ممتدة منذ سنين .


ولذلك احرص على أن تظل براكين غضب زوجتك خامدة ، وسارع إلى نيل رضاها بالإكثار من شرب عصير الجزر وقت السحور ، فهذا سيعينك حتما في نهار الصيام على تطهير عروقك من بكتيريا النمور المزمجرة ، وسيغذيها بفيتامينات الأرانب المسالمة والوديعة ، وهكذا ينقضي شهر الخير ، وأنت وزوجتك بألف خير .

الجمعة، 22 يوليو 2011

أقدام النساء وخلخالك الضائع


ليس ثمة ما يستدعي دهشتي ، كأمرأة تسير حذرة نحوي بخطى مواربة ، وحين ألتفت إليها ، تبدي بحرص مفتعل استياءها ، لنظراتي المتواترة بالاهتمام .

وكم أعجب من امرأة لا تضرم لهفتها لهيب اكتراثي ، فتقتصد من اندفاعها المباغت لإغوائي ، وتتركني لأتابع طريقي بسلام .

ولأن بي شغفا بأقدام النساء وتفاصيلها ، انحني برأس طائع عند أي قدم تصادفني بمشي سريع أو موارب .

وبما أن عيوني لا تفتأ سبرا للخبايا ، راقبت أقداما تسرف بعلو كعبها ، وتحبو في مسيرها ، وتوقظ بطرقعتها غفلة كل من يحيط بها ، وحين تهب نسمات مغازلتي لتداعب أصابعها الملونة ، تخلع حذاءها ويهوي خلخالها ، وتفر غير عابئة بعريها ، زاحفة على الأرض دون حجاب ، وحين تدمى في مسيرها من حجارة الطريق ، وتستغيث عروقها النازفة حزنا ولا تجد لها طبيب ، تعود أدراجها بحثا عن خلخالها ، فتجده في قدم امرأة أخرى .

و هذه ليست كل الحكاية ، فهنالك أقدام تخفي أنوثتها خلف أحذية رياضية ، وتجري برتابة في مسارات دائرية ، ومن شيمها أنها لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم ، ولا تحيد عن دربها ولا تتبسم ، وإذا ما صادفتها في جولات زمنية متتابعة ، ودعوتها عند كل منعطف لتخلع قيود حذائها ، وتجفف عرقها المهدور في كل يوم على الأرض ذاتها ، لا تلتفت لنداءاتي ، وتستمر في جريها حتى ينقطع الدم من أوردتها ، وتغادر مضمارا قضت حياتها تجري فيه دون أن تجد خط نهايته .

وهنالك أقدام تسير خفيفة بكل عفوية وتلقائية ، ووقع خطاها العفية بالكاد يسمع ، ولكنها تفتنني بجنون عند رؤيتها ، ففي بساطتها تكتمل أنوثتها وتؤكد واثقة أن الحسن كلما ظهر على حقيقته دون تكلف أو استعراض ، كان الأبهى والأحلى والأروع ، فيا صاحبة القدم الأجمل ، متى ستسيرين نحوي مطمئنة ، لترتدي خلخالك التائه بين الأقدام منذ الأزل ؟

الجمعة، 15 يوليو 2011

أنت وطني


لماذا ترتعش يدي وأنا أكتب في هذا اليوم ؟

أتراني أدركت متأخرا أن الحروف كانت تتلكؤ مابين أفكاري وتساؤلاتي ، عبر إدراجات متداعية القصد ، كغشاوة لتحيط حقيقة مجاهرتي بحبك ، وانصرافي لمناجاة قربك ، دون أن أعي تماما حينها ، أنك قاب قوسين أو أدنى من ملامسة حبر قلمي لسطور الورق .

واليوم أكتب إليك عاشقا ومعشوقا ، فأنا ما اشتهيت الكتابة ولارغبت بقضمها ولا التهامها حتى آخر حرف لايجد له رفيقا في الأبجدية فيشتق منه الكلام ، فكم من السنين قد مضى ، وأنا انتظرك في كل مكان ، فلا أنت أتيت ، ولا أنا غادرت يائسا إلى دروب النسيان .

ولأجلك سافرت من مدينة إلى أخرى ، وناديت عليك بكل أسماء الحب المحفوظة في معاجم اللغات ، فحط على قلبي أسراب من النساء ، وحلقت وحدك كحمامة بيضاء في فضاءات السماء .

وفي سبيل لقياك ، تقصيت أثر كل الرجال الذين حاولوا الوصول إليك ، وأرغمتهم على تغيير وجهتهم ، واجتهدت في المضي إليك وحدي ، دون خرائط ولا دليل عناوين ، فلا عثرت عليك ، ولا تعثرت بك .

حتى أنني ذهبت إلى كل الأماكن التي سمعت أنك تتواجدين فيها ، فجلست في المقاهي الخافتة الأضواء ، وذابت شموع طاولاتها وما حضرت ، ومشيت متعمدا في أزقة الأسواق ، فخذلتني حظوظي المفلسة من امتلاك لحظة لقائك .

ووقفت كمراقب السير في ميادين الطرق العامة ، وقيدت بنظري حركة المركبات المتدفقة من شتى الاتجاهات ، ولكنك عبرت كل المنعطفات في حين غفلة من طرفة عيني ولحظة ارتدادها .

وعندها قررت ركوب أمواج البحار لترميني على شواطىء كل النساء وتستثني شاطئك أنت ، ومضيت عازما البحث عنك فوق الجبال وتحت الوديان ، وبين الغابات ، وضفاف الأنهار المتعاظمة الجريان ، فحظيت من رحلتي بالأطلس الذي ما تواجدت في يوم على صفحاته قط .

واليوم أنا لست مكترثا بتعداد نبضات قلبي قبل مجيئك ، فهي ما كانت إلا سرابا حسبه ظمأ قلبي عنوانا لواحة حبك ، وإنني بعد أن رفضت الانتماء لأي أرض أو وطن ، أعلن نفسي وبملء سعادتي ، مواطنا مخلصا على أرض قلبك ، فبعدما كنت أظن أنني مجرد عابر سبيل بين محطات النساء ، توقفت أخيرا في محطتك أنت ، فألقيت حقائب سفري وأبيت الرحيل ، فهل ستأذنين لي بالإقامة الأبدية يا حبيبتي ؟

الجمعة، 8 يوليو 2011

درب الحب

على ناصية الطريق التقينا ، فوجدتك في حالة ارتباك قصوى ، وكأنك تحاولين الهروب من ذاكرة كل الطرقات التي مشيت فيها بالأمس ، ولكن هيئتك المكسوة بالخوف ، ماكانت لتقف حائلا أمام أنوثتك المتبخترة بالحسن ، وهذا كان يستدعي حرص خطواتي ، فلا أرتطم بفزع عينيك حين أعبر الطريق المتجهة إلى عتبات قلبك .

بسطت كفي الأيمن ، ودعوت كفك الأيسر للحظة عناق ، فإذ بتنهيدة تسبق موافقة منك على مضض ، وسرنا معا في درب لاندرك نهايته ، مأخوذين بوهلة الاكتشاف الأول لوحدتنا الموحشة ، وما كان لنا هم حينها سوى أن نخطو إلى الأمام ، لا نلتفت إلى الخلف المنكسر تحت وطأة أقدامنا .

دعوتك إلى تجاهل كل الشواخص التحذيرية ، وأكدت لك زيف ادعائها ، فمسرب هذا الدرب بعزم إرادتنا حتما سيكون نافذ ، وأخبرتك أنها ليست سوى مكائد لحسابات العقل ، ورجوتك أن تستمعي لأثير قلوبنا وهي تتغنى فرحة بدنو بشائر الحب ، ولكنك توقفت عند أول شاخصة حمراء صادفتنا خشية مخالفة قواعد الخوف .

وظل الضوء الأحمر متوهجا يلفح عزيمة خطواتنا التي انحنت للوقوف التام ، فأقسمت لك وأخذت عهدا على نفسي بدفع كافة غرامات تجاوزنا مهما كان الثمن ، ولكنك أبيت المخاطرة ، وتركت كفك المعروقة تجف بعيدا عن كفي .

سألتك فيما إذا كنت تخشين المسير في درب ممنوع ، فارتديت الصمت ولم تجيبي ، فخلعت الصبر وصارحتك إن كنت ستجزعين لرحيلي ، وعندها أجبت بنبرة مجهدة الضمير (( أخاف عليك أن تموت وحيدا بحادث سير )) ، فابتسمت ساخرا وقلت لك : (( الموت تحت إطارات الوحدة خير من الحياة بجانب قلب يخاف المسير في درب الحب )) .

الجمعة، 1 يوليو 2011

الاعزب الزائف

في الماضي حين كنت يافعا ، اتخذت من الأماني العاطفية دربا متعدد الاتجاهات ، وهذا كان يعزى إلى ضعف قلبي وهشاشة مقاومته إزاء أي أنثى كانت تشاركني الهواء في حيز المصادفات القدرية ، ولأنني سئمت من هزائمي المتتالية في خلط عناصر كيمياء الإعجاب المتبادل مع النساء ، سواء بتقاطع النظرة الأولى أو الثانية وحتى عدد لا محدود من النظرات التي تركن إلى حقيقة أنها أحادية المنشأ من بنات أمنياتي ، قررت إكمال نصف ديني والتخلص من لقب (( الأعزب )) .

اقتنعت تماما أن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى جسارة قلبي ، فلا يهرول خلف أي امرأة قد يصادفها في صباح أو مساء ، وهذا حتما سيساعدني في التخلص من أحلامي الليلة مع حبيباتي المفترضات تحت الوسادة الخالية ، وسيساهم في جعل الهدوء النسبي يخيم على أجواء حياتي العاطفية البائسة ، فلا تثيرها عواصف ولا أمطار نساء عشوائيات ، بل يسكنها صيف امرأة تشاركني الخبز والملح .

ولكن الطبع غلب التطبع ، وهذا حدا بي إلى مغازلة صديقة زوجتي في فترة خطوبتنا حين رمقتني بنظرة دمشقية من عيونها الخضراء ، ولم تتوانى نفسي الضعيفة أمام الجمال ، من فرض سطوة مراودتها على عيوني ، لتأتمر بأمرها وتطارد كل أنثى تواجدت في حفل زفافي ، حتى كاد يخيل إلي أنني سأتزوجهن جميعا في تلك الليلة ، وما كان لي حجة أو تبرير حين تلقيت صفعة من زوجتي أمام جميع الحاضرين ، سوى أن قلت لها (( عبد مأمور يا عزيزتي ... أنا أنفذ قرارات عليا وليس بمقدوري مخالفتها )) ، ولكن ماحدث في تلك الليلة كان مدعاة للتفكر حول مدى جديتي وعزمي في التخلي عن لقب (( الأعزب )) .

مضت الشهور الأولى على زواجي بسلام ، وبدأت أجد حصون مقاومة نفسي أمام فتنة النساء تتعالى في البنيان ، وهكذا أهملت دراسة عناصر كيمياء الإعجاب ، ولم أعد مكترثا بتفسير نظريات تجاذبها ، وشعرت بسعادة تغمرني ، وانصرفت إلى الاهتمام بعملي وبناء مستقبل مزهر لعائلتي ، حتى أصابني مجددا داء التمني ، وعادت خيالاتي أدراجها ، لتستقر في أحضان النساء لا ترواح مكانها ، فهطلت أحلامي بأمطار نساء لا تعد ولاتحصى ، وجدتها تتساقط من حولي في كل ليلة آمنة مطمئنة على وجه زوجتي ، فغرقت في سبات الأحلام ولم أخش البلل ، وما ارتديت معطفا ، ولا استعنت بشمسية ، بل وجهت قلبي إلى سحابات قلوبهن ، وقلت لهن امطرن يا حبيباتي دون توقف ، فصحراء الحرمان في عمري تتطلب أعواما لا منتهية كي تروى ، وهكذا أصيبت أرض قلبي بتخمة نساء ، حتى سرت في أعماقي جذور الحنين إلى سنين العزوبية العجاف .

وعدت أسأل نفسي عن سبب ضعفي المفاجىء ونهمي غير المسبوق كلما تواجهت مع النساء ، فما وجدت تفسيرا منطقيا لذلك ، ولهذا عقدت العزم على التظاهر مجددا بعزوبيتي ، لعلي إذا ما استئثرت بمياه الأمطار جميعها لن أظمأ بعدها قط ، وهكذا خلعت خاتم الزواج من يدي ، ومشيت في الأجواء الماطرة ذاتها ، فإذ بالغيوم تتباعد عن أجوائي بصورة مذهلة عصية على الفهم .

وقبل أن أطرح أرضا من فرط العطش والتعب ، تأتي سحابة امرأة وتظل متسمرة في سمائي ، فيشتد هطولها ولكنها لا تروي ظمأ قلبي ، على الرغم من حلاوة مذاقها ، وحينها اكتشفت أنني في حالة ظمأ قصوى لمياه أنثى ليس لها وجود في خارطة الكرة الأرضية .

الجمعة، 24 يونيو 2011

بعوضة

ابتدأ نهاره ببشرى سارة (( سيارته مسروقة )) وهي في الحقيقة الملكية الفردية الوحيدة التي تملكها في حياته الجميلة ، قلب كفيه واستغفر رب العباد ، ثم انطلق راجلا إلى أقرب مركز أمني وقدم بلاغا مفاده (( سيارتي التي تجاوزت خمسة عشر عاما ، قد تم اختطافها من أمام منزلي ، ولكني أعتقد أنها هربت مني ، فهي ما شاهدت معي إلا الحظ العاثر ، فأنا رجل كلما ظن أن الدنيا تبتسم له قليلا ، انهالت عليه سخطا وغضبا ولؤما أكثر )) .

في المساء ، كان يجلس على أريكته بقميص ذو أكتاف عارية ، مزهوا بعضلاته المفتولة ، ويتابع التلفاز كعادته في سهرة صيفية رتيبة ، لقد كان قراره في الانعزال عن الخلائق مدعاة للتفكر ، إذ أصبح ضيق الأفق ، ولا يلجم غضبه أمام أدنى قول أو فعل قد يثير حفيظة شياطين الاستفزاز لديه ، وهو الذي كان في زمان مضى ، بشوشا ، سمحا ، طيبا ، ولهذا اختار العزلة ، بعد أن فقد نفسه في داخل نفسه .

يوقف حاكوم التلفاز على قصة فيلم تروي معاناة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية بفترة الكساد الإقتصادي الكبير مطلع القرن الماضي ، ويلاحظ كيف أن لقمة العيش جعلت أفراد المجتمع يخلعون رداء انسانيتهم ، ويتصارعون كوحوش الغاب من أجل البقاء ، فتسللت الهواجس وسيطرت على مجريات الأفكار في عقله ، ليعقد المقارنات بين أمريكا اليوم وأمريكا في أمس الكساد العظيم ، ثم لا يلبث أن يتجنب مقارنتها بما يجري فوق ساحات الدول العربية من نكبات اقتصادية لاتعد ولاتحصى ، كي لا يسأل نفسه عن السبب الذي جعل النفوس ودماءها وأموالها وأعراضها رخيصة بين أبناء الوطن الواحد .

يتنقل إلى محطة تلفازية أخرى ، فيجد فيلما يتحدث عن مشروع لمخلوقات فضائية ، يهدف إلى شطب ذاكرة أم اختطفوا لها ولدها ، كي يثبتوا أن قوة القمع تتجاوز حدود روابط الأمومة ، وحينها فمن الممكن استئصالها من جذورها ، ولكن يا لذلك المشهد العظيم ، والمخلوق الفضائي يختطف من عقل تلك الأم كل ذكرياتها مع ولدها منذ لحظة ولادته ، ليسألها بعد ذلك (( هل كان لك في يوم ولد ؟ )) ، فإذ بذاكرتها الملغاة تعود إلى الوراء ، إلى مشاهدات كانت لأيام حملها بذلك الولد في أحشائها ، ليصيب المخلوق الفضائي ضرب من المس والجنون ، فيعترف بفشل قوته في القضاء على تلك العلاقة الإنسانية العظيمة ، وعندها ترواده الأفكار مجددا ولا يتمكن من طردها وهي تعقد له مقارنة بين تلك القصة وبين قصة أم تشاهد ولدها ينكل به لأسباب سياسية ويطالبوها بعد ذلك بالنسيان .

يبتسم ساخرا ويلتفت من غير سابق إنذار إلى كتفه الأيسر ، فيجد بعوضة قد حطت عليه وبثقة لامتناهية ، تتأهب لغرز إبرتها في جسده واستباحة هدر دمه دون أدنى خوف أو تردد ، فما كان منه إلا أن أعد العدة للإنقضاض عليها بصفعة ترديها إلى أشلاء متناثرة ، فالدماء التي تجري في عروقه باهضة الثمن ، وكل من تسول له نفسه بالتعدي عليها ، لابد أن يكون مصيره الموت لا محالة .

وفي لحظة كلمح البصر ، تنطلق صفعته صوب البعوضة ، لتستقر أصابع كفه كالوشم فوق جلد كتفه من قوتها ، ولكن البعوضة تمكنت من الفرار ، ليلعن ويشتم ويصرخ كالمجنون بصوت تعالى صداه في أرجاء الحجرة : (( من أنت ... من أنت ... من أنت ... أتعتقدين أنك تستطيعين هدر دمي وأنت مجرد بعوضة ... أين ذهبت ... حتما سأجدك ... وعندها أقسم أن أمزقك إربا )) .

يهدأ قليلا ويعاود التنقل بين محطات التلفاز الفضائية ، يناظر ساعته ، فيتذكر موعد نشرة الأخبار ، يتابعها باهتمام شديد ، ويجد أن القاسم المشترك بين جميع الأنباء التي سمعها ، عاملا ثابتا يتأكد مع كل تجربة حياتية ، يثبت كم هي دماء الشعوب العربية رخيصة على ولاة أمرها ، ينكمش فوق أريكته ، ويشعر بضمور يسري في عضلاته المفتولة ، ثم لاتلبث أن تصيبه نغزة في كتفه الموشوم ، ليجد البعوضة قد عادت أدراجها كمليكة متوجة لتوها على عرش أرض ما ، لم يجرؤ على إعادة الكرة بصفعها مجددا ، لأنه أدرك حينها أن البعوض يقارع الموت كي يعيش ، أما الإنسان العربي فيقارع الحياة ولكنه لا يعيش .

الجمعة، 17 يونيو 2011

شمس نيسان

من الذي لم يعشق الربيع برموز بداياته السعيدة ، وأشاح يستجدي نهايات الخريف وأحزانه الكئيبة ؟

ومن الذي كان لا يعتقد بوجود مدارات تحلق في فلكها أقلام البوح المهاجرة إلى فضاءات الروح ؟

ومن الذي كان يجزم أن الحروف حين تبتسم فإنها حتما ستهرم وتشيخ ؟

ومن الذي حظي بقراءة امرأة تتقن كل أدوار الأنوثة دون أن يغمض عينيه مرارا ويفتحها تكرارا كي يقتنع بحقيقة وجودها ؟

ومن الذي قال أن الكلمات تموت حين تقال ؟

اليوم عقدت العزم على نبذ كل تلك التساؤلات وراء ظهري ، كي احتفل بك يا نيسان على طريقتي ، فعندما أشرقت شمسك في سماء المدونات ، أدركت حينها أنني كنت مخطئا في بحثي عن شمس الشتاء من خلف ستارات السحب المظلمة ، واكتشفت أن مجرى النهر الذي يفيض بالحنان ، وشقائق النعمان برياحين محبتها ، وأشجار السنديان بشموخها ، كلها كانت تجتمع بين ثنايا حروفك .

يا ليت نساء الأرض يتعلمن منك كيف تكون الطفولة ، وكيف تكون المراهقة ، وكيف تكون الصديقة ، وكيف تكون الحبيبة ، وكيف تكون الزوجة ، وكيف تكون الأمومة ، كيف تكون المرأة التي يرفع الرجال لها قبعاتهم احتراما واجلالا .

أنا أعلم كم أنت متواضعة ولا تحبذين المديح والثناء ، وأعلم كم أنت عفوية وتلقائية في تعاملك مع كل من اجتمعت بهم فوق الصفحات الالكترونية ، وأعلم أنك لست بحاجة لكلماتي كشهادة على روعة شخصيتك وتميزها ، ولكن اعذريني في هذا اليوم ، فالعراك قد طال بيني وبين قلمي بشأنك ، فأنت قادمة من زمان مفقود في ذاكرة العصور ، فيه تجتمع القلوب على المحبة الصادقة دون تملق ولا نفاق ، فهنيئا لكل أرض أشرقت فيها شمسك يا نيسان .

كل عام وأنت شمس المدونات ... كل عام وأنت ست النساء ... كل عام وأنت وجميع من أحبك بألف ألف خير .

هذا الادراج هو هديتي المتأخرة بعيد ميلاد ( نيسانة التدوين ) ولن أقول المزيد فالكلمات تعجز عن احتواء شمس لا تغيب عن قلوبنا قط :)