الاثنين، 28 فبراير 2011

مجنون (( Beren ))

عند منتصف كل ليلة ، لا تدق ساعة الحائط في منزلي ، بل قلبي هو الذي يدق ويرتجف ، ويدي هي التي ترتعش محمومة عندما أهجر كل أخبار الدنيا ، وأسارع بالانتقال عبر المحطات الفضائية ، كي أقابل البدر وهو يهبط من السماء ويظهر أمام شاشة تلفازي .

ستون دقيقة أنعزل فيها عن العالم بأسره ، وأنا أحدق بتلك القامة المدهشة بكل تفاصيلها ، فهي أنثى قادمة من كتب الروايات والأساطير ، وإنني أمام جمالها أعلن جنوني وهذياني ، واستسلامي وخضوعي ، ولن أكترث فيما إذا تم مناداتي بمجنون (( Beren )) .

كلما تقترب الشاشة من عيونها ، تتقطع أنفاسي وكأنني في لحظات احتضار ستنتهي حتما بموت عشقي ، وكلما ابتسم ثغرها العذب ليكشف عن صفوف اللؤلؤ المختبئة وراء أسواره ، تنقبض كفوف يدي المنبسطة للتو على وجنتي ، تود اقتلاع لحم وجهي من فرط الانفعال .

يا لحظك يا رياح البسفور ، لو أننا نتبادل الأدوار لدقيقة واحدة فقط ، كي أحظى بمداعبة لطيفة الملمس لخصلات شعرها ، وأسكنها شهيقا ثم لا تلبث أن تطردني زفيرا من بين أنفاسها ، بل يكفيني أن اتخذ من زغب يديها فراشا أغفو فيه ولو للحظات .

مذ رأيتك يا (( Beren )) أدركت السبب الذي جعل قلبي هرما قبل الأوان ، وأدركت المسبب الجوهري لعزوفي عن الزواج ، فأين سأجد لبؤة من طراز أنوثتك ، تجعل زئير رجولتي مفترسا ومرعبا طوال الليل والنهار ؟

أعتقد أنه يتوجب علي أن أعيش بشخصيتين ، شخصية حالمة وعاشقة لأنثى أسطورية كـ (( Beren )) ، وشخصية هزلية تقليدية مضحكة سائدة في هذا المجتمع تدعى (( أبو علاء )) ، الذي يبحث عن بنت الحلال ، ولايهتم إلا بالتفاصيل المتعلقة بعدد خانات راتبها (( لغايات قروض السيارة والشقة )) ، فإن كان عدد الخانات ثلاثيا ، فلا بأس حينها إن كان المنهج السلوكي لحياتها مشابها لسيرة شرطي في قوات الدرك ، أما إذا كان عدد الخانات رباعيا ، فلا مانع أبدا إن كانت برتبة ضابط مع عدد لا محدود من النجوم .

وإذا كان (( أبو علاء )) سعيد الحظ وعثر على فتاة في مجتمعه لديها جنسية بلاد (( العمو سام )) ، فلن يكترث حينها إن كانت رجلا متخفيا برداء أنثى ، فهي ستكون الخريطة التي ستقوده إلى جزيرة الكنز .

أما إذا كانت الأقدار معاكسة لطموحات (( أبو علاء )) فإنه سيضطر الرضوخ مرغما في النهاية لتهديدات سطوة رغبات والده ، والذي يمني النفس بمشاهدة حفيده قبل الممات ، وسيسارع بالزواج من دجاجة وطنية زهيدة الثمن مشهود لعائلتها بأنهم يبيضون في كل عام .

(( أم علاء )) ما سيشغل تفكيرها في سنوات الزواج السعيدة ، هو أن تركب سيارة ، وأن تتملك بيتا ، وأن تنجب علاء وإخوانه وأخواته ، وأن تقضي وقتها في بث الهموم لوالدتها وصديقاتها عن سوء معاملة أهل زوجها ومشاكل الأولاد وغيرها الكثير الكثير ، ولكن (( أم علاء )) لن يكون لديها في خضم كل هذه الأحداث وقت للإهتمام أو الاكتراث فيما إذا شاهدت (( أبو علاء )) متسمرا أمام التلفاز لمشاهدة (( Beren )) فمن وجهة نظرها أنه مهما أبحر في خيالاته وأحلامه ، فلن يصل في النهاية إلا (( لزنوبة أم علاء )) المزركشة ببقع (( الكلور )) ، وتعتقد (( أم علاء )) أن رائحة الثوم والبصل المنبعثتان من فمها عندما تأتي إلى فراش الزوجية في كل ليلة هو المسبب الرئيس لاستمرار التناسل والحب ، في حين أنها على ما يبدو لا تزور الصيدليات كثيرا لتلاحظ حجم الإنفاق الهائل على حبوب النشاط التي تكون لـ (( أبو علاء )) وأمثاله كحبوب المخدرات التي تساعدهم على تخيل (( أم علاء )) كـ (( Beren )) ، فالمشكلة ليست فقط بجسد (( أم علاء )) الذي يتضاعف أكثر من خمسة أضعاف على أقل تقدير بعد الولادة الأولى ، بل المشكلة الرئيسة في أن (( أم علاء )) تتقن كل الأدوار في هذه الدنيا إلا الدور الأهم لها في كيفية الهيمنة على قلب رجلها ، ولذلك يصبح (( أبو علاء )) في رتبة الحج الوقور وهو لايزال في ريعان الشباب .

وردود الأفعال لأمثال (( أبو علاء )) أمام هذا السيناريو المفترض تختلف من رجل إلى آخر ، فقد يسلم لنصيبه وقدره ويسير مع (( أم علاء )) إلى طريق السكري والضغط وغيرها من الأمراض السارية في هذا المجتمع ، أو قد يتمرد على درب الهلاك الذي لا تبذل (( أم علاء )) أي مجهود لتغييره ، ويتزوج عليها إن هبت رياح مادية مواتيه ، أو قد يكتفي بالبحث عن نزوات عابرة تجدد له شبابه المندثر منذ السنوات الأولى في حياته مع (( أم علاء )) ، أو سيظل هائما في بحر الخيال مع (( Beren )) الذي لن يكلفه الاستمتاع بحسنها سوى فاتورة الكهرباء .

(( أبو علاء )) الذي لم يرزق بـ (( علاء )) بعد ، يخاف من المصير الذي قد ينتظره ، ولذلك قرر أن يبحث بين العازبات على من لديها ربع أنوثة (( Beren )) ، لعل وعسى يتمكن من الفرار من ذلك السيناريو الأسود الذي ينتظره مع حبيبته (( أم علاء )) ، ولكنه عاد يجر وراء ظهره أذيال الخيبة والحسرة ، إذ اكتشف أن معظم الفتيات في مجتمعه ، مظهرا وفكرا وسلوكا وشخصية ، يرفعون سارية مستقبلهم منذ الآن وقد نقش عليها عبارة في غاية الروعة (( كلنا أم علاء )) .

السبت، 26 فبراير 2011

ماذا أفعل بلساني ؟

على ما يبدو أن ثورة باتت وشيكة الإندلاع على عاداتي الرافضة للتنحي عن سدة التحكم بمجريات حياتي ، وهذا ما تأكدت منه وأنا أغادر المسجد بعد صلاة يوم الجمعة ، إذ تمزق معطف الخشوع الذي كنت سعيدا بارتدائه ، بمجرد انطلاقي بالسيارة أمتارا قليلة ، عندما داهمتني سيارة مسرعة قادمة من طريق ممنوع ، وبرضا من الله و الوالدين ، نجوت من كارثة اصطدام محتومة الحدوث ، إلا أن لساني الذي كان يحاول جاهدا تعويض ميزان حسناته بكلمات الاستغفار والتسبيح والتكبير والتحميد ، والتي كان للتو يرددها في المسجد ، أضاعها بأقل من عشرين ثانية ، بعد أن استنفر كعادته مطلقا أكثر من خمسين شتيمة نابية .

أعود إلى المنزل ، وأحاول استعادة سكينتي مجددا قبل أن أتورط بمشاجرة قد تنشب مع زوجتي لأسباب تافهه ، وبالفعل أدخل وقد ارتسمت على ملامحي المضطربة ابتسامة مصطنعه ، أقبل الأولاد بشفتين باردتين ، وأنادي زوجتي بصوت رزين أجتهد بضبط أوتاره ، لترد على ندائي بصراخ تهتز جدران المنزل من قوته ، وعندها لا أتمالك السيطرة على لساني العزيز ، فأهرب إلى المطبخ وأغلق الباب ، إيذانا ببدء انطلاق حفلة غنائية من الشتائم ، والتي تفوق في مدتها ، سهرة الطرب الشهرية لسيدة الغناء العربي (( أم كلثوم )) في زمن الفن الجميل .

نذهب عند والدتي لتناول وجبة الغداء كما هي العادة في كل يوم جمعه ، وليس هنالك من ضرورة البتة كي أحدثكم عن ماهية الوجبة التي تكون في انتظارنا ، فهي وبكل تأكيد ، الوجبة الأزلية الخالدة (( المقلوبه )) ، نأخذ أماكننا على الطاولة المستديرة ، أتناول أول ملعقة من الرز الخالي من القرنبيط أو الباذنجان لأسباب تتعلق بمحبتي المعاكسة لهما ، وأتبعها بقطعة من اللحم التي تقفز برشاقة إلى شرخ طاحونتي المعطوبة منذ شهر رمضان المنصرم ، فأقفز من مكاني لشدة الألم ، ولكن ذلك لم يثني من عزائم لساني على شتائمه .

أتأهب لاصطحاب زوجتي وأولادي إلى نزهة يوم الجمعة ، والتي أصبح مقصدها لا يتغير في فصل الشتاء لأسباب اقتصادية بحته ، ولهذا فإن (( المول )) الذي يبعد عن منزلنا لمسافة لا تتجاوز العشرة كيلومترات ، يكون لنا المأوى والمستقر ، وما أن بدأت استرجع هدوئي واستجاب لساني السليط لرجائي ، كي يطمس شتائمه بمداعبات وملاطفات رقيقة للأولاد ، حتى تلاشى كل ذلك بمجرد وصولنا إلى الشارع العام ، فقد كان شرطي السير بانتظار كل من لم يطوق صدره بحزام الأمان ، فيحاول لساني وبكل ما أوتي من جلد وصبر ، التحدث مع الشرطي بأسلوب لطيف ، لعل وعسى أن يخلي سبيلي دون تحرير مخالفة سير ، ولكن هيهات هيهات ، فأذن من طين وأذن من عجين ، لأستلم المخالفة وأتابع مسيري إلى (( المول )) وقد فرض لساني بشتائمه الصمت المطلق على أفراد عائلتي .

ندخل (( المول )) ونتوجه إلى صالة الألعاب التي امتلأت عن بكرة أبيها بسبب تخفيضات الأسعار المذهلة المعلن عنها في الصحف ، أزاحم الصفوف عند كل لعبة يصر الأولاد على اللعب فيها ، ويجاهد لساني رغباته المعتادة للشتائم ، وخصوصا عندما يتصبب العرق من كافة أنحاء جسدي بعد أن أكون محاطا مع الأولاد من الأمام والخلف بجثث آباء ضخمة ، إذ نصبح عاجزين عن الحراك وتتوسل عيوننا قفص اللعبة كي يفتح قبل أن يقضى علينا بسبب حالة اختناق ، وقد وصلنا في ذلك اليوم إلى لعبة (( السفينة )) ونحن على شفا حفرة من الإغماء ، فتهم ابنتي للجلوس في المقعد الأمامي ويلحق بها شقيقها كي يجلس بجانبها ، ولكن السيد القبطان ، عفوا السيد المشرف على اللعبة ، يدفع بولدي كي يجلس في الخلف ، وعندها شرعت بمناداته بصوت مرتفع بسبب الضجيج الذي يعج به المكان ، فالتفت نحوي وعيونه تقدح شررا ، وأجابني بنبرة قاسية بحجة أنني لم أكن مهذبا على حد مزاعمه ، معللا ذلك بطريقتي الفظة بالنداء ، وهنا لم يتمكن لساني من التحمل أكثر ، وأمطر صالة الألعاب بشتائم تواصل هطولها دون توقف .

نعود إلى المنزل في المساء ، وأتسمر أمام التلفاز لمتابعة أخبار الدنيا وتحديدا بشقيها المحلي والعربي ، ومن صخب الأحداث التي لا تكون مفرحة قط ، أتوسل لساني الحبيب كي يحتسب ويستغفر ، ويبتعد عن التفوه بأية شتيمة من شتائمه المعتادة ، فبالإضافة إلى ما يتسبب به لساني من جراء ذلك بعجز مستمر في ميزان الحسنات والسيئات ، فإن ولدي الذي لم يتجاوز العامين ونصف العام بات يكرر كل كلمة تتردد لمسامعه ، وكالمعتاد فقدت زمام السيطرة على لساني أمام بعض الأخبار ، لينطلق حينها صوت طفولي يحبو بالنطق الصحيح للشتيمة الأخيرة التي أطلقها لساني ، وحدث ما كنت أخشاه ، واستمر ولدي بتكرارها طوال الليل والنهار ولغاية لحظة كتابة هذا الإدراج ، فماذا أفعل بلساني ؟

الثلاثاء، 22 فبراير 2011

أحفاد عمر المختار

أعتذر منكم يا قراء مدونة أفكار وتساؤلات الكرام ... دماء أحفاد شيخ الشهداء عمر المختار التي تراق في هذه اللحظات ... جعلت قلمي عاجزا عن الكتابة تماما ...

اللهم ارحمهم يا رب العالمين ...

السبت، 19 فبراير 2011

قصة مدون

كان ياما كان ، وفي ذات ربيع من نيسان ، كان هناك أشخاص يجتمعون في بيت إلكتروني يدعى (( Blogger )) ، يتبادلون فيه الآراء والأفكار ، ويسردون مشاهداتهم وملاحظاتهم اليومية ، أو يستعرضون تجاربهم الشخصية وخبراتهم الحياتية ، فأحيانا تجدهم يتشاركون في ذكريات جميلة من الماضي البعيد ، وتارة أخرى تجدهم يتحدثون عن أحلام وأمنيات مستقبلية ، أو عن مناسبات وأحداث لحظية ، فتجد أقلامهم تخط وفي كل لقاء يجمعهم ، أجمل معاني التواصل والتفاعل الإيجابي في مختلف الجوانب الإنسانية .

وفي يوم من الأيام ، طرق بابهم العنكبوتي أحد الأشخاص ، وقال لهم أنه كان يسكن في هذا البيت قبل مجيئهم ، ولكنه لم يكن يريد منهم أن يرحلوا ، بل أراد أن يكون واحدا منهم ، ويتشارك معهم في تلك اللقاءات الجميلة التي كانت تجمعهم .

مشرفة البيت (( Whisper )) وافقت على انضمامه ، ولكن شريطة خضوعه لفترة تجربة لا تقل مدتها عن ثلاثة شهور ، فإذا أثبت خلالها قدرته على اختراق قلوب الآخرين بكتاباته ، وبتواصله معهم ، فسيبقى ، وبخلاف ذلك ، سيتوجب عليه الرحيل والعودة من حيث أتى ، وليبحث حينها بين محركات البحث عن بيت إلكتروني آخر ، إذ أن مشرفة البيت وقتها لم تكن تعلم أنه إذا ما دخل بيتا إلكترونيا ، فالإبتسامة لن تفارق أهله أبدا .

في ذلك الوقت ، كنت قد تشاركت مع أصدقائي في الركن المخصص لي في بيتنا الإلكتروني ، بموضوع كان بعنوان (( خالفني يا سيدي )) ، ولم أنتظر يومها سوى تعليق واحد ، حتى حضر ذلك الشخص وبدأ يتحدث عن الموضوع ، بهرني بأسلوبه المختلف في الكتابة ومنذ اللحظة الأولى ، ولست أقصد هنا الحديث فقط عن جماليات العبارات اللغوية ، بل ما لفت انتباهي أنه زج ببضع كلمات في سطر كان يبدو فيه وعند وهلة القراءة الأولى في قمة الحزم والجدية ، ولكن تلك الكلمات التي دمجها بين السطور ، قلبت الموقف عندي رأسا على عقب ، فلم أجد نفسي إلا وأنا أضحك من أعماق قلبي وليس من أعماق حلقي وحسب ، كان السطر الذي كتبه يقول : (( تخوفي أن تتفاقم الأمور لحد الانفجار ويبدأ كل واحد بأخذ حقه بيده ... وأسنانه كمان )) .

وكانت تلك هي البداية ، فأينما ذهبت وأينما توجهت وأينما تجولت في أرجاء بيتنا الإلكتروني ، أجده في كل مكان ، وقد تغلغلت محبته في قلوب الجميع ، إذ كانت لديه قدرات مذهلة في التواصل معهم ، وكأنه يعرفهم منذ زمن بعيد .

والأجمل من هذا كله ، أنه كان استثنائيا بثقافته التي كان يملكها ، فهي لم تكن سببا في تشبثه بمنصة الغرور والتعالي على الآخرين كما هي حال العديد من المثقفين في هذه الأيام ، بل إن فهمه وإدراكه الصحيح للعلم والمعرفة والثقافة ، كانا دربه الممهد لإتقان فن محاكاة كل صنوف أهل بيتنا الإلكتروني ، وهذه موهبة ربانية لا تؤتى إلا لذي حظ عظيم .

سألني أحد الأشخاص في يوم من الأيام عن سر ذلك الشخص ، فأجبته : (( هو عبقري ، والسبب أنك عندما تتواصل معه سواء بقراءة مايكتبه في زاويته أو عند متابعة ما يكتبه في زوايا الآخرين ، تجده يتمكن من الإنتقال بمشاعرك وبعذوبة لا متناهية من رتابة السأم إلى مطلق الإثارة ، ومن كآبة الأحزان التي تعصف أيامنا إلى واحات الهدوء والراحة والإبتسام ، ومن حالات مستعصية لفقدان شهية الكلام والتواصل إلى نهم الحديث والحوار ، إنه كائن اجتماعي مع مرتبة الشرف والتميز )) .

ولقد كانت النتيجة الحتمية لذلك ، أنه لم يكمل فترة التجربة ، إذ هب الجميع وبصوت واحد : (( هيثم منحبك )) .

هذا الإدراج إهداء متواضع مني لأخي وصديقي وزميلي الحبيب (( المدون هيثم الشيشاني )) صاحب مدونة (( تأملات غير آمله )) ، وأحيطه علما أن غيرته لم تكن في مكانها أبدا ، لأن مكانته عندي غالية وجدا .

الثلاثاء، 15 فبراير 2011

يا حبيبي ... يا رسول لله

غطت في سبات عميق ، وإذ بها تسمع صوتا يناديها من بعيد (( لقد حملت يا آمنة بخير الأنام )) ، وعندما أكمل شهر ربيع الأول اثنتي عشرة ليله ، لم تشعر بثقل الحمل وآلام الولادة كغيرها من نساء الأرض ، فلقد بزغ نور الحق في يوم الإثنين من عام الفيل ، ليولد سيد الخلائق والبشر ، رافعا رأسه إلى السماء ، التي عجت بالشهب الطاردة لمسترقي السمع من وراء بوابات عرش الرحمان ، وحفت الملائكة البيت العتيق بأجنحتها ، ونكست أصنام الشرك رؤوسها ، وخمدت نيران فارس ، وتساقطت تيجان ملوك الدنيا وتلاشت ، فالعزة لن تكون إلا لله ورسوله والمؤمنين .

ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب ، وما لبث أن أصبح يتيم الأم بعدها ببضع سنوات ، ولكن جده (( عبد المطلب )) سيد قريش وزعيم مكه ، وعمه (( أبو طالب )) من بعده ، كانا له الأب والأم في صباه وشبابه ، ليكبر ويترعرع ذلك الفتى القرشي الهاشمي العربي في بيوت الأصالة والشهامة ، ويكون استثنائيا في مكارم أخلاقه التي جعلت قومه يطلقون عليه لقب (( الصادق الأمين )) .

وما أن أتم الخامسة والعشرين من عمره ، حتى دون لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع القصص وأجملها في العلاقات الزوجية ، مع سيدة كانت تتقن كل الأدوار التي يتشوق لها الرجل في امرأته ، فلقد كانت حبيبته وأمه وصديقته ، وما أصعب أن تجد امرأة تجتمع فيها كل تلك الأحوال ، ولكن ذلك ليس غريبا على من تأصلت فيها خصال حميدة يعجز القلم عن سردها ، فبعفتها وعقلها وحزمها نالت لقب (( الطاهرة )) في الجاهلية ، وأضحت بعد ذلك سيدة الإسلام الأولى (( السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها )) .

وعندما أصبح عليه الصلاة والسلام في الأربعين من عمره ، تحين لحظة اللقاء الموعود مع سيد الملائكة (( جبريل عليه السلام )) ، لتنطلق بعدها رحلة الدعوة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد ابتدأت بفعل أمر سيظل الإذعان له طريق النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة (( اقرأ )) .

لم يكن الطريق معبدا أمامه عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى دين الإسلام ، ولقد لاقى الأذية من القريب قبل البعيد ، ومع هذا ظل صابرا محتسبا ، متمسكا برسالته ، لاتثني عزائمه كل وسائل الترغيب والترهيب ، ليدون للبشرية دروسا لن تتكرر في المثابرة والإصرار على إكمال طريقه للنهاية ، فيقول لعمه (( أبو طالب )) عبارة خالدة إلى قيام الساعة : (( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر أو أهلك دونه )) .

ويأتي عام الحزن ، ويفقد صلى الله عليه وسلم أعز الناس إلى قلبه (( زوجته وعمه )) ، ويذهب إلى الطائف ، ويتعرض للأذية والسخرية من صغار أهلها وسفهائهم ، ولكن قلبه الكبير المتسامح ، وإخلاصه ووفاءه لرسالته ، ومحبته الخالصة لأمته ، جعلته يرفض دعوة (( ملك الجبال )) الذي كان ينتظر إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام ، ليطبق الجبال على الطائف وأهلها ، فكان جواب الرسول العظيم له بالرفض معللا : (( بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبده ولايشرك به شيئا )) .

لتكون هدية الرحمان لحبيبه بعدها ، بلقاء استثنائي عند سدرة المنتهى ، من غير حجاب ولاحاجز ، وبمسافة كانت قاب قوسين أو أدنى ، ما وصلها ولن يصلها أحد غير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد رحلة بدأت على ظهر الحصان الطائر (( البراق )) من مكة المكرمة إلى بيت المقدس الشريف ، ومن ثم إلى السماوات العلى ، ليسطر لنا عليه الصلاة والسلام في تلك الرحلة أحوال السماء وأهلها ، ويصف لنا طريق الجنة والنار ، ويسرد لنا لقاءه مع هادم اللذات ومفرق الجماعات (( ملك الموت )) ، ليذكرنا أننا مهما عشنا في هذه الدنيا ، فلا بد لورقة أعمارنا أن تصفر وتسقط ، معلنة لحظة الأجل التي لامفر منها ، وهكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج العظيمة .

وتأتي بيعة أهل يثرب ، ويهاجر النبي عليه الصلاة والسلام برفقة صديقه (( الصديق )) رضي الله عنه ، تاركا وراءه لوعة الحنين والأشواق إلى مسقط رأسه وذكريات شبابه وصباه ، فلا يلتفت إلى الخلف قط ، بل تتجه أنظاره إلى مدينة ستعج بالنور لقدومه ، ويعلو فيها صوت التوحيد ، وتكون منبرا ينطلق منه الإسلام بعدها إلى كل بقاع الدنيا ، فيهلل أهل يثرب بقدوم البدر الذي سينير لهم عتمة سماء حياتهم .

ويآخي النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ويعلمهم أن هذا الدين يجمعهم ، ويألف بين قلوبهم ، ليكونوا كالبنيان المرصوص ، وأنهم إذا تنازعوا على عرض الدنيا ومتاعها ، حتما سيفشلون وتذهب ريحهم ، ولذلك كان يعلمهم دوما أن مثلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

وبهذه العقيدة الراسخة في القلوب قبل الجوارح ، بدأت الدولة الإسلامية بإرساء قواعدها ، وبدأت أعداد المسلمين بالتزايد ، وانطلقت جيوش الإسلام تحمل على كتفيها رسالة التوحيد ، وتحقق وعد الله عز وجل لرسوله الكريم ، ودخل مكة المكرمة فاتحا ، وحطم بيديه الشريفتين كل مظاهر الكفر والشرك وهو يردد قائلا : (( جاء الحق وزهق الباطل ... إن الباطل كان زهوقا )) ، ويحج بيت الله الحرام بعدها ، ويلقي خطبة الوداع الخالدة مبتدئا بعبارة أخشى أن يكون الكثير من المسلمين في هذه الأيام قد غفلوا عنها : (( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا )) .

ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعدها ، ويذهب لزيارة شهداء غزوة (( أحد )) ويخاطبهم قائلا : (( السلام عليكم يا شهداء أحد ... أنتم السابقون ونحن انشالله بكم لاحقون )) ، ويشتد الوجع على الرسول الكريم بعد ذلك ، وقد كان يبيت عند السيدة ميمونة رضي الله عنها ، وهنا يعلمنا عليه الصلاة والسلام درسا رائعا في احترامه لزوجاته ، إذ يدعوهم جميعا في ذلك اليوم ، ليستأذنهم في المبيت عند السيدة عائشة رضي الله عنها ، ويشتد الألم بالرسول عليه الصلاة والسلام أكثر ، ويعجز عن النهوض ليقبل ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها من بين عينيها كما هي عادته ، وهنا درس آخر من الرسول الأب عليه أفضل الصلاة والسلام ، لينام بعدها على صدر زوجته عائشة وهو يردد قائلا : (( بل الرفيق الأعلى ... بل الرفيق الأعلى )) ، فتسقط يده الشريفة ويثقل رأسه على صدرها ، فتدرك أنه مات ، فتخرج من حجرتها لاتدري ماذا تفعل ، وتتوجه إلى المسجد وهي تصرخ منتحبة : (( مات رسول الله ... مات رسول الله )) ، فانفجرت المدينة المنورة بالبكاء ، إلا رجل واحد لم يظهر حزنه للناس مع أنه كان الأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ليتوجه إلى حجرة النبي الكريم ، يحضنه ويقبله ، ثم يخرج على الناس قائلا : (( من كان يعبد محمدا ، فمحمد قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لايموت )) .

وهكذا صعدت روحه الشريفة إلى بارئها في يوم الإثنين الموافق الثالث عشرة من شهر ربيع الأول عن عمر يناهز الثالثة والستين ، بعد أن علمنا بسيرته العطرة دروسا لن تتكرر أبدا في تاريخ البشرية ، ولذلك فإن ذكرى المولد النبوي الشريف التي تصادف في هذا اليوم هي وبكل تأكيد ذكرى لبزوغ فجر الإسلام ، ولكنها في الوقت ذاته ، مدعاة للبحث والتعلم والتأمل والتفكر في ذلك المنهج العظيم الذي دونه لنا عليه الصلاة والسلام بسيرة حياته التي ليس لها من مثيل .

اللهم صل وسلم وبارك على الحبيب المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

الاثنين، 14 فبراير 2011

كل عام وانت مليكتي

يقولون أن اليوم هو عيد للحب ، وهذا ماكنت أعتقده قبل أن تشرق شمسك في سماء حياتي ، لم أكن أعلم أنه يدخر لقلبي في كل عام ، ما كنت أجزم أنه محض من خيال ، كل عام وأنت مليكتي .

نبذت وراء ظهري كل أساطير الغرام ، وكفرت بكل المذاهب العشقية والمناسبات العاطفية ، فهذا اليوم هو عيدي أنا ، وفرحتي أنا ، وكيف لايكون ؟ وهو الذي جعل حلمي بلقياك يتحقق ، كل عام وأنت مليكتي .

هل اعترفت لك قبل اليوم أنك امرأتي الأسطورية ؟

وهل غفل قلبي أن يقسم أنك (( ست النساء )) ؟

لا ... لا ... فأنت ملكة الملكات ، واليوم لابد أن أقبل البطن الذي حملك ألفا ، بعد أن جعل حضورك لحياتي حقيقة راسخة ، تتجدد كلما احتفل العشاق بعيدهم ، كل عام وأنت مليكتي .

لم أكن أتخيل أننا نرسم أقدارنا بأقلامنا ، وأن شرارة الحب الأسطوري لايشعلها إلا لقاء أرواح كانت تسبح في فلك الأحزان ، كل عام وأنت مليكتي .

سيحتفل بك اليوم الأقارب والأصدقاء ، ويطفئون معك شموع العيد ، وستتبادلين معهم التهاني والأمنيات بالعمر المديد ، وسيتهافت على قلبك الفرسان ، أما أنا فسأقف في الركن البعيد عن حياتك الواقعية ، ليس لي إلا القول ، كل عام وأنت مليكتي .

قد تمضي الأيام والسنين ، وأحتفل لعقود قادمة بهذا العيد على طريقتي ، فأنا قد لا أكون إلا بطلا من ورق لأسطورتك العشقية ، لكن سألتك بالله أن لا تكتبي خاتمة لها ، فحبر الأيام لن ينضب طالما نحن على قيد الحياة ، كل عام وأنت حبيبتي .

أترانا لو اطلعنا على الغيب هنيهة لاخترنا الواقع ؟ وأننا لو كنا ندرك أن أقسى الأوقات عسرا سيتبعها قطعا أوقات يسر حتى ولو بعد حين ، فهل كنا حقا سننتظرها ؟ أم أننا كنا سنمضي مع أول قطار عابر يأخذنا بعيدا عنها ، لكي ننسى آلامنا وأحزاننا التي مابرحت تطاردنا ، على الرغم من اعتقادنا أننا ابتعدنا عنها مذ رحلنا عن تلك المحطة ؟ قد لا أكون مكترثا اليوم بالإجابة على هذه التساؤلات ، لأنني أدركت سعادتي يوم هبت نسائم عطرك من فوق حواجز الكلمات ، كل عام وأنت مليكتي .

قلبي الآن كسفينة في عرض البحر ولن تعود أدراجها إلى الميناء الذي أبحرت منه ، بل ستمضي في رحلتها ، لعل الأقدار تكتب لها في يوم أن ترسو في ميناء عينيك ، وعندها ستكون فرحتي كفرحة طفل تائه عاد إلى صدر أمه ، وكدمعة شوق من طال غيابه عن أرض وطنه ، كل عام وأنت مليكتي .

السبت، 12 فبراير 2011

السبب والمسبب

من يوم الأحد وحتى يوم الخميس ، كل أربعة أسابيع ، وعلى مدار عشرين شهرا متتاليا ، أخرج من عملي ، وأركب سيارتي متجها إلى منزلي فورا ، كطالب نجيب لايتأخر عن موعد حصصه المدرسية أبدا ، وفي طريق عودتي التي لا تتجاوز مدتها الربع ساعة ، تضيق بي الأرض بما رحبت ، من مطاردة النظرات الفضولية لي ، ولكن لماذا تطاردني ؟ ليس بسبب جمالي الفتان طبعا ، وليس بسبب أنني أقود سيارة فارهة طبعا ، وليس بسبب هيبة مظهري وهندامي طبعا ، وليس بسبب أن امرأة حسناء تجلس بجواري طبعا ، وليس ... وليس ... وليس ... كفاك (( رغيا كالصابون )) ، لماذا ينظرون إليك إذا ؟

السبب هو أنني أعاني ومنذ صغري من عادة كنت أعتقد أنها تتسبب في مرض نفسي خطير ، وحتما تودي بمن يفرط في ممارستها إلى عالم الجنون ، ألا وهي عادة الحديث مع النفس ، ولكن بعد قراءتي مؤخرا ، لعدة مقالات طبية متخصصة في علم النفس على الشبكة العنكبوتية ، حول هذا الموضوع ، تبين أن مخاوفي لم تكن في مكانها ، إذ أثبتت دراساتهم أن أسلوب الحديث مع النفس ، هو علاج فعال للحد من وتيرة الضغوطات النفسية ، ولذلك سأشكر والدي الذي أورثني هذه العادة ، التي ما ينفك عن ممارستها كلما اختلى بنفسه فجرا في دورة المياه ، ولابد أن ابنتي (( ياسمين )) ستشكرني أيضا في المستقبل ، بعد أن بدأت ألاحظ ظهور الأعراض الأولية لهذه العادة عندها كلما كانت في خلوة مع ألعابها ، ومما لاشك فيه أنني لن أتعرض بعد اليوم للنقد اللاذع من زوجتي ، كلما استيقظت مذعورة من نومها صباحا على صوتي ، في أثناء النقاشات المحتدمة مع نفسي ، وأنا أصفف شعري أمام المرآة .

لن أكترث بعد اليوم لروايات سائقي (( التاكسي والسرفيس )) وهم يشرحون لركابهم حالتي ، ويعزونها إلى الأوضاع المعيشية الصعبة ، فلقد حدث في أحد الأيام أنني قررت الذهاب في (( السرفيس )) المتجه من جبل الحسين إلى وسط البلد ، ولقرائي الذين لا يعيشون في الأردن ، (( فالسرفيس )) هو سيارة أجرة لها خط مسير ثابت ، وحمولتها أربعة أشخاص ، ولقد كنت في ذلك اليوم قد صادفت السائق الذي ركبت معه على إشارة ضوئية أثناء عودتي إلى المنزل ، ولاحظت قبيل سطوع الضوء الأخضر للإشارة ، أن ذلك السائق قد أطال التحديق بي ، إذ أن لفتة فجائية مني لليمين ، كانت سببا كافيا له لإشاحة وجهه مسرعا ، أعتقد أنه أصيب بالهلع والخوف ، فالمجانين لايمكن التنبؤ بمخاطر سلوكياتهم أبدا ، لاشك أن ذلك ما كان يدور في خلده حينها .

وتشاء المصادفات وبعد ثلاث ساعات ، أن أكون أحد رفاق رحلته الذين سيروي لهم حكاية ذلك الشاب ، وبما أنني كنت أجلس خلفه ، واستبدلت ثياب عملي الرسمية بثياب (( casual )) ، فلم يلاحظ أن بطل روايته سيكون حاضرا بشحمه ولحمه على المقعد الخلفي .

وقبل أن أحدثكم عن روايتي بلسانه ، فقد نسيت أن أصفه لكم ، فهو على مايبدو بالعقد السادس من عمره ، ويرتدي (( كوفية وعقال )) ، لون بشرته سمراء ، وكثافة شاربيه تكاد تطمر حفرتي أنفه ، وشعر لحيته كرؤوس المخرز ، وملامح وجهه القاسية تذكرني تماما بمدير مدرستي الإعدادية عندما كان يرتدي (( الكوفية )) في الشتاء ، ولست أدري لماذا خيل إلي أنه ضخم جدا ، على الرغم من أن مقعده يكاد يكون ملتصقا بمقود السيارة ، هل السبب أن ضخامته تتركز في نصفه الأعلى فقط ، ولاتنطبق على نصفه الأسفل ؟ ربما .

كان يعبث بإبرة المذياع بحثا عن نشرة الأخبار ، وما أن تحقق مراده ، حتى بدأنا جميعا بسماع النشرة على الدرجة القصوى لإمكانيات المذياع الصوتية ، لدرجة أنني شعرت لوهلة أن السماعات من خلفي تكاد تنفجر وبفاصل زمني قصير جدا عن انفجار يتبعها في طبلة أذني ، وخصوصا أن رداءة الارسال كانت سببا في مرافقة أهازيج التشويش ، ككورال لصوت المذيعة .

تبدأ النشرة بالحديث عن أخبار التشكيلة الوزارية المتوقعة ، والعمل الدؤوب لرئيس الحكومة الجديدة وما يبذله من عناية حثيثة في اختيار وزراء أكفاء قادرين على تحقيق الأمل المنشود بالإصلاح ، وفي هذه الأثناء يتدخل السائق بخبرته الطويلة في المجال السياسي : (( هاظي الحكومة يا إخوان رح تقضي على الفساد وبكره بتشوفو )) ، يتدخل الراكب الذي يجلس إلى جواره وعلى طريقة أبو محجوب : (( هلا عمي )) ، تنتقل المذيعة للخبر التالي ، والذي يتحدث عن آخر التطورات في العالم العربي ، وتأكد أن جامعة الدول العربية ستعقد اجتماعا طارئا تبحث فيه سبلا جديدة لقمع شعوبها المتمردة على سياسات حكوماتها الرشيدة وبدون اللجوء إلى العنف ، كي لا يتكرر ما حدث في تونس ومصر ، فهناك اتفاقيات مع أمريكا واسرائيل ولايجوز خرقها ، فالمواطن العربي يجب أن ينحصر تفكيره في الأكل والشرب والنوم فقط ، وهنا يتدخل السائق مجددا : (( إحنا شو بدنا غير هيك ، وعلى رأي المثل : طعمي التم تستحي العين )) ، الركاب لايبدون أية رغبة في التعقيب على كلامه .

الخبر التالي كان مفاده اكتظاظ وسط البلد القديم بأعداد هائلة من المجانين ، وهنا ضرب السائق بكف يده التي تضاهي بضخامتها على ما أعتقد عشرة أضعاف كف قدمه ، فخذ الرجل الجالس بجواره ، كمحاولة لإخضاع سمعه للرواية التي سيسردها عن ذلك الشاب الذي كان يتحدث مع نفسه ، مبتدئا كلامه بالقول : (( صدقني يا خال ، كثير صار عندنا مجانين في البلد ، اليوم مثلا ... )) وقبل أن يتابع حديثه ، ينظر نظرة خاطفة إلى المرآة ويحدق بالركاب الجالسين في الخلف ، ثم يردف قائلا : (( والحكي للجميع )) ، فيرد الركاب عليه وبصوت واحد : (( ولاتهون عمي )) ، ويشرع بالحديث متأثرا وحزينا لما رآه من ذلك الشاب الذي كان من وجهة نظره كوردة جورية أينعت في ربيع العمر ، ويسأل مستنكرا عن السبب الذي أودى به ليصل إلى تلك الحالة المؤسفة ، فيتدخل الراكب الجالس إلى جواره : (( أكيد كان بحب بنت وتركتو لأنو مش قادر يشتريلها بيت )) ، ويعقب الراكب الذي يجلس على يميني بقوله : (( أنا بعتقد إنهم استغنو عن خدماتو في العمل وانضم إلى طابور البطالة )) ، المرأة التي تجلس إلى يساري تشترك في النقاش بقولها : (( يمكن يا جماعة متزوج وراتبو مابكفي طلبات مرتو و أولادو )) ، ينظر السائق مجددا إلى المرآة ، وتتقاطع عيوننا معا ، ثم لايلبث التوجه لي بسؤال كنت في انتظاره : (( وانت يا شب شو رأيك ؟ )) ، فأجيبه وبكل هدوء : (( مش مهم السبب يا خال ، المهم المسبب )) ، السائق جافلا : (( شو يعني المسبب ؟ )) ، استطرد قائلا : (( المسبب هو الذي يؤدي إلى حدوث السبب )) ، السائق يتمتم مع نفسه همسا بعد أن انتقلت عدوى المرض إليه : (( هاظا شكلو الشعب كلو رح يصير مجنون )) .

الثلاثاء، 8 فبراير 2011

ما جهلته عن العشق

لم أكن أدري قبل اليوم أن العشاق كاذبون كرجال السياسة ، فهم حين يطمئنون لمحبتنا لهم ، يجافون ، وحين نعزم أمرنا على الثورة ونطالبهم بالتنحي عن عرش قلوبنا ، يتوسلون .

لم أكن أدري قبل اليوم أن في معادلة العشق متغير تابع ومتغير مستقل ، وإذا شاءت الظروف العاطفية لأحبائنا ، باحتلال موقع المتغير المستقل ، فحتما بنتائج انفعالاتنا العاطفية ، سيتلاعبون .

لم أكن أدري قبل اليوم أن لذة العشق تولد من رحم الرغبة المستحيلة ، عندما يكون الحب مندفعا في اتجاه واحد ، مخالفا قوانين الفيزياء العاطفية ، التي أكدت أن لكل محبة متأججة بثورة العشق ، محبة مساوية لها في القوة ، ومطابقة لها في الاتجاه .

لم أكن أدري قبل اليوم أن التاريخ العشقي لايعيد نفسه ، وأن أساطير الحب في القرون البائدة لا تتكرر ، فنحن في عصر المعتقلات الأنانية ، مباح فيها سفك دماء القلوب ، إذا ما راود نبضها أية هواجس في التمرد على محبة الذات .

لم أكن أدري قبل اليوم أن الخارطة العشقية قد تغيرت معالمها ، فالقريب من مدن العيون ، يبتعد عن عواصم القلوب ، والبعيد عن وديان الأجساد ، يلتصق بجبال الروح .

لم أكن أدري قبل اليوم أن قوانين الحياة قد أعيد صياغتها ، وأن جميع نصوص بنودها ، تعاقب كل من تسول له نفسه بالعشق ، وتحكم عليه بالاشغال الشاقة المؤبدة في سجن البلاهة والتفاهة .

لم أكن أدري قبل اليوم أن الحب لايخلق فينا إنسانا أفضل ، إذ أن سلم أولويات المفاضلة قد تغير ، فالمال أولا ، والسلطة ثانيا ، والجاه والعز ثالثا ، عندها فقط تكتمل صورة الإنسان في هذا الزمان .

لم أكن أدري قبل اليوم أنني أخطأت في قراءة الواقع ، وكنت أهيم في عالم الأحلام ، متأثرا بالروايات والأفلام ، فالحب ليس إلا مخدرا ، نحقن به قلوبنا كلما شعرنا بالفشل في تلبية متطلبات حياتنا الرتيبة .

لم أكن أدري قبل اليوم أن العشاق لايلتقون في الدرك الأسفل من بقاع الحرية ، فكيف يمكن لمن يتشبث بدفة رحى الأيام في مسار لايتغير ، أن يتجرأ على انتزاع الأغلال من عنقه ، دون اكتراث لجلدات سياط الكبت المهيمنة على حياته ؟

لم أكن أدري قبل اليوم أنني عشقت امرأة تفرض سطوتها بسيف أنوثتها ، ولاتخاف من يوم ينفجر فيه قلبي مجاهرا برفض سياستها ، ومطالبا باسقاطها عن عرشه أو الموت دونه .

الخميس، 3 فبراير 2011

مداخلة مدون في أحداث الثورة

لطالما تأثرت بمقولة قرأتها يوما في رواية فوضى الحواس : (( يسألونك أي مدينة تسكن ، لا أية مدينة تسكنك )) ، إن هذه العبارة تحتل ذاكرتي منذ بداية الأحداث في تونس ومصر ، وأنا الذي عشقت منذ طفولتي مدنا لم أسكنها ، ومدنا لم أتمكن من زيارتها قط .

الأمر المؤلم ، هو أنني ومع كل يوم مضى من حياتي ، لم أكن سوى شاهد عصر على تعرض إحدى تلك المدن وسكانها للدمار والأذية ، وما كان بوسعي أن أقسم على تلبية نداء استغاثتهم ، كما فعل المعتصم مع امرأة عمورية .

لا أريد التفكير بما يمكن حدوثه في المستقبل ، لم أعد احتمل مشاهدة حبيباتي وهن يذبحن واحدة تلو الأخرى ، فحبيبتي الأولى اسمها (( قدس )) وقد ذبحت قبل أن أولد ، وحبيبتي الثانية تدعى (( بيروت )) وهي تذبح في كل يوم وتحتضر أكثر ، وحال حبيبتي الثالثة الملقبة (( بغداد )) ليس بأفضل ، وحبيبتي الرابعة (( الخرطوم )) غارقة في الدماء التي شطرت أهلها إلى نصفين ، والآن يمتد خنجر الذبح ليطال جسد حبيبتي الخامسة عروس النيل (( القاهرة )) خلال ثورة أحرارها العظيمة ، وياخوفي على حبيبتي السادسة (( تونس الخضراء )) أن تطاردها هواجس الطامعين في الذبح عقب ثورة أبنائها المجيدة .

أنا كغيري أفاخر بشباب مصر وتونس وإرادتهم الحرة وعزمهم الأبي على التغيير والانعتاق من سجون ظلم حكامها ، لكن وفي الوقت ذاته ، وبعيدا عن العواطف الآنية التي تتميز بها الشعوب العربية ، تكتمل مباركتي لثورتهم وبكل جوارحي ، إذا تحقق أمرين في غاية الأهمية .

الأمر الأول : أن يعم الأمن والاستقرار كافة أرجاء مصر وتونس الغاليتين قبل أي شيء آخر .

الأمر الثاني : أن لا تتحول بلادهم إلى ساحة للمعارك السياسية ، يتنازع فيها فقط من يطمع في الوصول إلى السلطة ، ولا يكون لديه النية الصادقة في بناء بلده والارتقاء بمعيشة مواطنيها ، لأننا في هذه الحالة سنشاهد (( مباركا جديدا )) أو (( بن علي آخر )) وهكذا دواليك ، مع العلم أنني أتحدث هنا عن السياسة الداخلية فقط ، ولا أود التعرض في حديثي إلى السياسات الخارجية ، لأن ذلك الأمر شائك ومتشابك جدا .

وكما يقول الشاعر طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة : (( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )) ولذلك لن ألهث وراء انفعالاتي وعواطفي ، كما هي عادتنا نحن العرب ، بل سأراقب بصمت ، وأدون نتائج التغييرات التي ستحصل بمشيئة الله تعالى في تونس ومصر ، والتي أتمنى ومن كل قلبي أن تكون متناغمة ومنسجمة في انجازاتها مع أهداف تلك الثورات المقدسة ، وعندها فقط سأصرخ وبأعلى صوتي مفاخرا : (( أننا كعرب بدأنا بالفعل نستعيد أمجادنا التليدة )) .

اللهم كن مع شعب تونس ومصر ، ولاتخيب أملهم يا كريم ، وأبعد عنهم الطامعين في استغلال مواقفهم لخدمة الأهواء والمصالح الشخصية ، وهيىء لهم قائدا عادلا ، يكون على قدر المسؤولية والأمانة ، ولايغرر بأمانيهم وأحلامهم المستقبلية إلى هاوية اللاشيء ، اللهم آمين .

الثلاثاء، 1 فبراير 2011

الدرويش

مذ كان في المدرسة الإبتدائية ، ووالدته تفرط بتوصيته في كل صباح وهي تدس له شطيرة (( الزيت والزعتر )) في حقيبته الصفراء الصغيرة ، كي لايشارك الأولاد في الصف بلعبة تكرار الكلمات المتشابهة الحروف ، ولكنه لم يكن يفهم سبب إصرار والدته على وصيتها ، وهو الذي يحلم في كل ليلة أنه يذهب إلى المدرسة ويهزم الأولاد جميعا في سرعة اندفاع لسانه بالنطق دون أية عثرات .

تبدأ حصة اللغة العربية ، وتطالبه المعلمة بقراءة أنشودة فلسطين الخالدة ، فيقف مرتبكا ، ليس بسبب عدم حفظه للنشيد ، بل لخوفه من انقطاع صوته أثناء انتقاله بين الكلمات ، يقف صامتا كصخرة تتلاطم عليها أمواج متتابعة من الهواجس والأفكار ، لتقطع المعلمة صمته بصراخها ، فيما إذا كان قد حفظ النشيد ، فيستجمع أنفاسه ، ويفتح فمه مسرعا ، ولكن الكلمة الأولى ظلت حبيسة لسانه لثوان مرت عليه كدهر ، قبل أن تتحرر وتندفع بثمانية حروف من أصل حروفها السته (( ف ... ف ... فلسطين )) ، ويسبق نطقه للكلمة التالية ، ضحكات الأولاد الساخرة ، والتي احتلت فراغ الصمت الذي سبق شروعه بالإنشاد ، لتعاود المعلمة صراخها ، ويصمت الجميع بإذعان تام ، فيكرر محاولته لإكمال النشيد وبإصرار أكبر ، ويفلح في إنشاد الشطر الأول بصوت عذب وجميل (( فلسطين داري ودرب انتصاري )) ، ثم لايلبث أن ينزلق صوته بعدها في هاوية التلاشي بفم فاغر عاجز عن النطق ، وفي هذه الإثناء احتدم الصراع بين عقله ولسانه وهو يملي عليه النطق بمطلع الشطر الثاني (( تظل بلادي هوى في فؤادي )) ، إلا أن لسانه تعثر مجددا في أول كلمة ، مرددا حرف التاء ثلاثا ، لتتعالى الضحكات ، وتقلب المعلمة كفيها آسفة على حاله ، وتشكره على اجتهاده في المحاولة ، بكلمات لم تمنع دموعه عن الجريان .

تأتي العطلة الصيفية ، والتي يعتقد أنها ستكون ملاذه الآمن من سخرية الآخرين لطريقة نطقه ، فيصطدم بسؤال إمام المسجد له بعد صلاة الجمعة ، عن سبب عدم التحاقه مع أولاد الحي بدورة حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام تلاوته ، ولايتركه إلا بعد أن يحظى منه بوعد على حضور الدرس بعد صلاة المغرب ، ينظر إلى السماء ويتمنى لو أن الشمس في هذا اليوم لاتغيب ، ولكنها تسرع في الاختفاء وراء الجبال على غير عادتها في أيام الصيف ، فتنعقد حلقة الدرس ، ويجلس على يسار الإمام ، آملا أن ينقذه آذان العشاء قبيل مجيء دوره في التلاوة ، فقد علم من صديقه المشارك بتلك الدورة ، قيامه بذلك الفعل المتعمد دائما ، إلا أن الأمام وعلى غير عادته ، يباغت خطته باقتراح مناداة الأسماء بشكل عشوائي ، ويقع عليه الاختيار الأول ، ليتلعثم عند التعوذ ، وينطق البسملة بدءا بلسان صامت ، فيتهامس الأولاد فيما بينهم مستهزئين ، ويتبع همسهم زجرة عيون الإمام الغاضبة ، وتلاوته للآية الأولى من سورة المسد ، كمحاولة لمساعدته على كسر حاجز الخوف من النطق ، وبالفعل نجحت مبادرات الإمام وتمكن من نطق أول كلمتين وبدون تردد (( تبت يدا )) ، ليعجز مجددا عن التفوه بكنية من وعده رب العالمين بنار ذات لهب ، وفي تلك اللحظات وبينما كانت همسات الاستهزاء تتهيأ لاعتصار الدموع من عينيه اليائستين ، تأتي بشرى الإمام مطمئنة إياه ، أن أجر قراءته مضاعف في ميزان حسناته عمن سواه بإذن الله تعالى .

يعود إلى المنزل ، ويثب إلى صدر أمه باكيا ، فتربت على رأسه وتضمه بعزم أكبر كلما أجهش بالبكاء ، فهي لاتجد مناصا في حل عقدة لسانه ، إلا بالدعاء لرب السماء والأرض ، لإنها تتذكر جيدا ماقاله الطبيب لها قبل سنتين ، إذ ليس هنالك من علاج لحالة ولدها كي ينطلق لسانه بالكلام دون توقف ، بيد أنها تذكرت فجأة الحديث الذي دار بينها وبين إحدى صديقاتها ، والتي أكدت لها أن علاج ولدها هو في تناول كميات من (( الفستق الحلبي )) ، وروت لها قصة ابن أخت جارة عمتها ، والذي كان لايتكلم أبدا ، حتى بدأت والدته بإطعامه الفستق في كل يوم قبل وبعد وجبات الطعام ، فتمكن وخلال أسبوع فقط ، من الكلام وبشكل أفضل من الكبار ، وبالفعل بدأت والدته ترسله في كل يوم لشراء الفستق وتحثه على تناوله بالطريقة التي وصفتها صديقتها ، ولقد ظل يأكل الفستق بعدها حتى بات مدمنا عليه ، لدرجة أنه لو تأخر عن تناوله يوما ، يصاب بحالات ارتعاش غير قابلة للتأويل والتفسير ، وعلى الرغم من كل هذا ، فقدرته على النطق لم تتغير .

لم يكن حاله في شبابه أفضل من طفولته ، فلقد أطلقوا عليه في الحارة لقب (( الدرويش )) ، ولم يكن السبب في تلك التسمية ناشئا عن صعوبات النطق التي يعاني منها فحسب ، بل لأنه كان أيضا يكظم غيظه بين محيط عمله ومكان سكنه من سخرية الآخرين واستهزائهم به ، ولقد كان يحدث في كل يوم جمعة ، تجمهر حشد كبير من الناس أمام المطعم لشراء الفول والحمص ، وبمجرد قدومه يبدأ الأولاد بالتصفيق والهتاف ، أما صاحب المطعم فلا يتورع عن تقليد طريقته بالكلام وهو يأخذ منه النقود لتلبية طلبه ، فيعج المطعم ببكاء المتواجدين فيه ، ليس بسبب الحزن طبعا ، بل من كثرة الضحك .

وكعادته يخرج من المطعم وهو يتمتم : (( سامحكم الله يا أخوتي )) ، ليخترق مسامع كل من في المطعم دوي كوابح سيارة وهي تحاول جاهدة التوقف قبل دهس فتاة كانت تحاول عبور الشارع ، فيرمي (( الدرويش )) صحن الحمص ، ويقفز كالفهد ملتقطا الفتاة قبل ثانية من اصطدام السيارة بها ، فيصاب جميع من كان في المطعم بحالة ذهول تام ، وهم يكادون لايصدقون ما رأته عيونهم للتو ، ويتبع ذلك نوبة ندم تجتاح قلوبهم وقد امتزجت بألم الحسرة على فظاعة ماكانوا يفعلونه بحق ذلك (( الدرويش )) ، ثم مالبثوا أن تداركوا موقفهم بالركض نحوه جميعا وهم يبكون ، ليبتسم حينها ويقول لهم وبدون تلعثم : (( أنا أحبكم جميعا )) .

تكثر في مجتمعاتنا ظاهرة السخرية والاستهزاء من الأشخاص الذين لديهم عيوب خلقية ، ولكنهم لايعلمون أن العيب ليس في الخلقة ، بل في الخلق السيء الذي لايجدي معه جمال المظهر .