علمتني
تجارب الحياة بمنطقها المعاكس ، قاعدة ذهبية في أسس العلاقات بين الرجال
والنساء ، أطلقت عليها ما يعرف بقاعدة الاندفاع المضاد ، وهي قاعدة لا
تحتاج إلى مسلمات أو نظريات ، لأنها ترتبط بطبيعة الإنسان ومفهومه لمتوالية
الرغبات والاحتياجات ، فالرجل حين يظهر اهتمامه بامرأة ما ، يغفل عن رؤية
امرأة قد تقف خلفه ، تسعى إليه ولا تتمكن من إدراكه ، فهو يسعى لغيرها في
اتجاه معاكس و لا يلتفت وراءه قط ، وتكتمل دورة استحالة التلاقي ، حين تبتعد
المرأة التي أمامه وهي تسعى لرجل يسير من أمامها ولا يلتفت إليها من وراءه ،
فكم أنت غريب أيها الأنسان ؟
و ينبثق عن ذلك أيضا قاعدة فرعية يمكن تسميتها قاعدة هالة الارتباط ، وذلك حين يجذب انتباه المرأة رجل يسير برفقة امرأة أخرى ، فإذا سار وحيدا يفقد تلك الهالة ولا تنظر إليه بقصد أم بغير قصد ، مع مراعاة انطباق هذه القاعدة على الرجال أيضا ولكن بنسبة أقل ، وهذا ما جعلني دوما في حيرة وشك من طبائع البشر وسلوكياتهم العابثة عند الحديث عن الحب .
إن هذه المقدمة البسيطة تستكمل أحداث قصتي مع (( مارغريت )) ، فكم كنت أسير إليها ولا أدركها ، وكم كانت تحاول إغوائي بحبها كلما رمقت نظرات صديقتها لي ، وكم ابتعدت عني وخذلت كل آمالي بحبها ، حين كتبت سطور النهاية في قصتي مع صديقتها بعد اعترافي أمامها بعشقي لعيونها الخضراء حد الجنون ، فكانت الخاتمة بانتقام أنثوي مزدوج ، وكان الضحية ذكر مغرور سرعان ما اكتشف أنه لم يكن سوى شخص ساذج .
في الحقيقة أنني ومنذ نظرات (( مارغريت )) التي كانت عصية على الفهم والتفسير عند وداعي في تلك الحفلة ، ما كانت بصيرتي لتكشف لي خبث نواياها في التخطيط والتدبير لإجهاض ذلك الحب في رحم قلب صديقتها قبل ولادته ورؤيته للنور ، وهكذا كانت الأيام تمضي بتؤدة وأنا (( كالأطرش في الزفه )) كما يقولون في أمثالنا الشعبية ، أخرج برفقة صديقتي التي كانت تصر دوما على اصطحاب (( مارغريت )) وصديقها أينما ذهبنا وحيثما وطئت أقدامنا ، وفي كل نزهة لنا كانت (( مارغريت )) تتحرش بي في حين غفلة من صديقها وصديقتي ، وأنا في كل مرة يزداد ضعفي أمام إغواء نظراتها وابتساماتها ومداعباتها التي كانت تخفي في باطنها هيجانا عاطفيا يكاد يلقي بي في غياهب الإذعان المطلق لفتنتها ، فكنت كالماسوشي أتلذذ بتعذيبها وأنا مكتوف الأيدي ، وهي أمامي تقترب من شفتاي كالتفاحة الحمراء الشهية المعقودة بخيط رفيع ، ثم تبتعد دون أن أتمكن من قضمها.
لست أدري كيف تسارعت الأمور بعد ذلك ، وتحديدا بعد قرارها بهجر صديقها ، واكتشافي أنني المسبب الرئيس في انفصالهما ، بعد أن بدأ يلاحظ سلوكياتها التي تجاوزت الحدود الطبيعية في تعاملها معي ، وهذا جعلني أعيش حالة من انعدام التوازن وفقدان السيطرة على مشاعري المتأججة بعشقها ، مع أنني كنت أدرك تماما أن صوت الضمير في داخلي كان يعلو على كل نداءات الحب ، فكيف لي أن أهجر صديقتي لأجل صديقتها ؟
وفي يوم من الأيام وبينما كنا في طريقنا لمشاهدة فيلم في السينما ، قررت أن أعترف لـ (( مارغريت )) بحبي لها ، ولكن دون أن أتقدم لها بعرض علاقة عاطفية تجمعنا ، فقد كنت أفكر بالابتعاد عنها وعن صديقتي للأبد ، إذ لم يعد بمقدوري التظاهر والتحايل على صديقتي بمشاعري التي رفضت كل الدروب واختارت درب (( مارغريت )) ، وبالفعل نفذت ما كنت عازما على فعله ، وغادرت صالة السينما قبل بدء العرض ، دون أن تبدي (( مارغريت )) أية لهفة أو رجاء ببقائي ، ولكن الذي ما توقعت حدوثه بعد ذهابي للمنزل ، تلك المكالمة الهاتفية من صديقتي وهي تتوسلني كي نبقى أصدقاء ، وتعدني بمساعدتي في إقناع (( مارغريت )) لتكون معي ، دون أن يؤثر ذلك على صداقتهما قط .
لم أصدق ما سمعته ، أحقا لا يزال من البشر من يؤثر سعادة حبيبه على سعادة نفسه حتى ولو كان مع غيره ؟
اتفقنا على موعد لاحق في معرض يقام في الربيع في أحد نوادي طائفتهم ، فذهبت وقلبي يسابق خطواتي ، كنت سعيدا حد الجنون ، إنه اليوم الذي سأتمكن فيه أخيرا من مناداة (( مارغريت )) بكلمة (( حبيبتي )) دون أن أخشى الناس من حولي ، وعند وصولي مقر النادي ، شاهدت (( مارغريت )) وهي تقف خلف قضبان البوابة الحديدية الضخمة ، كانت تلوح لي وتبتسم وتنادي ، فاقتربت منها وانا ما زلت أعتقد أنني أحلم ، فنظرت لي نظرة ازدراء وصرخت بأعلى صوتها والحشود متجمهرة أمام البوابة (( أغرب عن وجهي أيها الحقير ... أنت لست مني )) ، وكأن صاعقا من السماء كان قد أصابني ، ارتعشت أقدامي وبدا رأسي ثقيلا ، فأوشكت أن أهوي على الأرض والدنيا تدور من حولي ، والأشخاص عند البوابة يقتربون مني وقد أدركوا من عبارة (( مارغريت )) أنني لست من طائفتهم ، فنظرت إليها ونظرت إليهم ، واستجمعت قوتي في لحظة من عزة النفس والكرامة ، وقد تناسيت الدفاع عن حبي الذي فقدته قبل لقائه ، كي أواجه هذه الحشود بقضيتي الكبرى كأنسان ولد كما ولدوا من أب وأم واحدة ، ولكن قبل النطق بأية كلمه ، تقف سيارة فارهة عند البوابة ، وتخرج منها صديقتي وبرفقتها شاب من طائفتها ، تنظر لي أيضا بازدراء ، فألوذ في جبة الصمت ، وابتعد عن المكان دون أن التفت لما ضاع خلفي من أوهام عشتها في قصة حبي لـ (( مارغريت )) .