الجمعة، 30 ديسمبر 2011

خيالات عاشق في ليلة رأس السنة

في تلك الساحات التي تعج بالبشر وهم يهتفون بالعد التنازلي لعام يلفظ الثواني الأخيرة من أيامه ، ثمة عاشق يقف في منأى عن الجموع في زاوية مظلمة لا تطالها أنوار الاحتفال ، والتي تنطفئ سريعا كلما أفصح العام الجديد عما في جعبته من أحداث وأخبار لا تليق ببشائر التفاؤل المرتقبة في بداياته .

هو ليس معنيا بالسياسة ، ولا يكترث بترقب أزهار الربيع إن أينعت إثر تغيير التربة التي تحتويها ، ولا أعتقد أن الإقتصاد بكساده أو رخائه ، وجنون الأسواق المالية وتقلبات أسعار العملات ، وانهيار تحالفات الدول العظمى أو اتفاقها ، وارتفاع مؤشرات الأمن المجتمعي أو انخفاضها ، قد تحتل حيزا من خياله في تلك اللحظات .

إن قلبه كان يشبه حياة الغجر ، فلا يستقر على محبة امرأة قط ، ولكنه في هذه الليلة عزم أمره على البقاء في أحضان امرأة تدرك تماما أن رياح الحب إذا هبت فلا بد من اغتنامها ، فالتاريخ يؤكد مع كل تعداد زمني لسنواته ، أن الذي يمضي لا يعود ويلتفت للخلف .

ولكن من تكون يا ترى هذه المرأة ؟

أهي امرأة تقطن بلاد العرب أم العجم ؟ شقراء أم سمراء ؟ عيناها كزبد البحر أم كغابات النخيل ؟ أم كالعسل الذي يقطر فوق أغصان البلوط والسنديان ؟

تراها أي حرف اختارت من الأبجدية ليهمس في أذنيها كل حروف النداء ؟ وهل حقا تتقن أناملها مداعبة وجنتيه الشاحبتين ؟ ومعانقة كفيه المرتجفتين ؟

أين كان لقاؤهما المفترض ؟ على ذاك المقعد المقابل لمنزل جدتها عند حديقة الجاحظ في دمشق ؟ أم خلف صخرة الروشة في بيروت ؟ أو قد يكون غفل أنها تنتظره في كوبري قصر النيل ؟ ولربما ابتعدت قليلا ومشت على جسور قسنطينه وسألته أن يكون بطلا لرواية لم تكتبها (( أحلام المستغانمي )) بعد ؟

كل الاحتمالات كانت ممكنه ، وهذا كان يستدعي منه أن يجتهد في حصص التاريخ والجغرافيا ، ويتقن لغات ولهجات عديدة ، ويحفظ كل قصص الحب ودواوين الشعر قبل عصر الحب العذري وبعده ، ولكن ثمة أشياء تظل ناقصة مهما سعى المرء لإكمالها ، كخطوط الحبر التي تنضب قبل رسمها على الورق .

قد يكون في هذه الليلة ينتظرها ، ولربما في الغد سيمضي مع العام الجديد ويستجدي حلول عام آخر ، كحاله منذ ثلاثة عقود قد خلت ، لا شيء مما يتمناه يحدث قط ، لعله في هذا العام يدرك أن نصيبه من هذه الدنيا لا يتعدى الأمنيات .

ولذلك أيها العاشق كفاك خيالا وتمني ، ففي الحب إما أن تكون أو لا تكون ، ومن العدم لا يخلق العشق ، و لا توجد منطقة رمادية أو بعد ثالث يخط على كراسات القلوب عاطفة يتم وأدها حين ولادتها .

عند حلول كل عام جديد ، نتفاؤل ونتمنى ونحلم ، ولكننا لا نجرؤ على محاولة الإقدام لتحقيق ما نصبو إليه ، ونلقي باللوم دوما على الظروف والأقدار التي تعاكس إرادتنا ، فمتى نتحرر من هواجس تلك القيود ، ولا نتردد ولو لمرة واحدة في حياتنا من المسير في دروب دون التفكير بنهايتها ؟

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

أميرة من بلاد القوقاز


كي أكتب عنك ، فذلك يستدعي أن استحضر طقوسا استثنائية ، فلقد كانت الليلة الأولى من نوفمبر ، ذاك التاريخ المرتبط على وجه الدقة بذكريات (( أحلام المستغانمي )) كاتبتك المفضلة ، والمرتبط بذكرى تدوينتك التي لن أنساها ما حييت قط ، فلقد كانت أول تدوينة بحق قلمي الذي لطالما عاش في الظل وحيدا ، لا يجد نور حروف تشرق على كراسات أوراقه بكلمة مديح أو ثناء .

ولذلك دعيني أخاطبك اليوم على طريقة (( ابن طوبال )) ، فأشعل الذاكرة بخيباتي الكتابية من قبلك ، والتي بدأت تحديدا وأنا في الخامسة عشر من عمري ، حين وبخني أستاذ اللغة العربية أمام الطلاب على سرقتي لموضوع تعبير من مقالة في مجلة لا يعلم مصدرها ، ولم يسبق له قراءتها ، فأقسمت له ببراءة قلمي من اتهامه ، ولكنه أصر على منحي درجة متدنية ، وأذعنت يائسا لعقوبة أول جريمة كتابية اقترفتها ، بعدما كنت أظن أنني أرسم لوحتي الأدبية الأولى .

وبعد عام واحد فقط ، لجأت إلى الأوراق البيضاء تارة أخرى ، لعلها تقنع حبيبتي الأولى بالعدول عن قرارها في الهجران ، فكتبت أول رسالة حب ، وترجمت بحرص شديد ، لغة القلب والروح بعد رحيلها ، ودموعا ما جفت في مآقيها ، وأياما ترفض حياة لا تحتويها ، وعهدا لن تنحل عقدته مهما طال غيابها ، فكان ردها على رسالتي مؤثرا حقا ، إذ ضج بيتها بزغاريد خطبتها على رجل يعمل في بلد نفطية ، وحينها لعنت قلمي الذي كلما لامس الورق ، أثخن حياتي بالحزن واليأس والخيبة .

وبعد ثلاثة أعوام ، انقطعت الأخبار بيني وبين صديق هاجر البلاد ، وكنت مشتاقا له أشد الاشتياق ، وما كنا نعلم حينها مكان القرية التي سيلتقي فيها العالم وهم جالسون في بيوتهم ، فكان لامناص من الكتابة مجددا على الورق ، ورجوت القلم أن يساعدني في استفزاز مشاعر الحنين لدى صديقي حال تسلمه لبرقيتي المسجلة بعنوان بارز يدعى الإشتياق ، ولكن جمال القارة العجوز كان كفيلا بإلقاء رسالتي في أقرب سلة مهملات ، ليتجدد موعد الخيبات الذي بات مرتبطا بالكتابة .

ومضى عقد من الزمان ، والخيبات تطاردني في كل ميدان ، ولكن عشقي المجنون للكتابة ظل ملتهبا لا تخمده ثلوج اليأس والحرمان ، فأعدت ترتيب الأفكار والتساؤلات التي شغلت حياتي لثلاثة عقود من الزمان ، وبدأت أكتب تدوينة تلو الأخرى ، حتى أتيت في الأول من نوفمبر ، مخالفة كل قوانين الإحباط التي لازمتني في مشواري الكتابي ، لتكتبي بقلمك الرائع توصية تزكين فيها قلمي ، ومن فرط سعادتي وأنا أقرأ حروفك في ذلك اليوم ، لم ألتفت إلى أستاذ اللغة العربية الذي لا يفتأ ذكرا لقصتي في كل مجلس مع زملائه المتقاعدين وهم يلعبون النرد في المقهى ، وإلى حبيبتي الأولى وهي تتحسر في حديثها مع جاراتها عن أمنياتها بكلام عذب تسمعه من زوجها ويكون شبيها لرسالة قرأتها في أيام مراهقتها ، و صديقي الذي أضافني على قائمته في الفيس بوك وهو يفرط في ارسال حنينه لأيامنا الماضية ، فذلك كله لا يضاهي فخري واعتزازي بشهادتك التي جعلت موعدا استثنائيا للفرح يتزامن مع لحظة كتابية لقلم أجهدته الخيبات .

هذه التدوينة مهداة إلى الأميرة القوقازية (( هدايه )) صاحبة مدونة (( orangee ))

الجمعة، 16 ديسمبر 2011

على خطى " فلورينتينو "


منذ خمسة عقود و أنا أستجدي لقاءنا الموعود ، وقفت أمام كل الأبواب الموصدة ، وما أذعنت لليأس من انفراج أقفالها ، ومشيت في درب قد طال فيه المسير ، عازما على الوصول إليك ، غير مكترث بمحطات العمر التي جاوزتها خطوات أيامي المتلهفة للقائك ، فشحذت الأمل بقلبي ، وحملت على أكتاف روحي الصبر ، لأجدد لك مع فجر كل يوم جديد ، قسمي الأبدي بحبك .

مضى العقد الأول وأنا أبحث عنك ، أنام وأصحو ولا أهذي بكلمات لا تبدأ بحروف اسمك ، ألتهم دواوين الشعر ، وأعيش تفاصيل كل روايات الحب ، وأسهر على آهات العندليب و مواويل القيصر ، دون أن يشغل حيز تفكيري من المستقبل أي هدف لا يتقاطع مع رغبتي الجامحة في إيجادك ، وفي ذات قدر متأخر ، عثرت عليك وأنت ترتدين طرحتك البيضاء وتزفين عروسا لرجل غيري .

في العقد الثاني ، كنت كالطيور المهاجرة أتنقل من أرض امرأة إلى أخرى ، وعبثا كان تأقلم القلب بأجواء حبهن ، مما استدعى رحيلي المتواصل في ليالي الفراق خلسة وعلى رؤوس أصابعي ، فلا التفت ورائي خشية الحنث بقسمي الأبدي حين أشاهد دموعا تسألني عدم الرحيل ، وعندها أجوب كل أراضي النساء المترامية أمام بصري ، ولا أغفل الالتفاف بحرص حول أرضك المحرمة على قلبي أن يطأها ، وتحديدا في الوقت الذي كنت تحتفلين فيه بعيد أمومتك الأول فالثاني ، وأنا أقف على حدود أرضك أراقب ذلك كله ، وازداد إصرارا وعزيمة على إدراك اليوم الذي قد يجمعنا .

وجاء العقد الثالث وما أقحمتك بمعاناة الانتظار ، بل كنت اكتفي بمشاهدتك من بعيد ، والاطمئنان على دوران عجلة أيامك في مسار سعيد ، وعلى الرغم من أنني كنت استشعر دنو لحظات الشباب عن الرحيل ، إلا أن حبك في قلبي ظل فتيا ، لا تسري إليه أعراض الهرم قط .

وعند العقد الرابع اشتعل الرأس شيبا ، وأنا لا أزال أمشي في دربك وأتعثر بالفراغ ، حتى أصبحت أخشى في كل محاولة أواصل فيها المسير ، أن أجد صدر الموت يضمني عوضا عن صدرك الذي قضيت أربعين عاما وأنا أتمنى اللجوء إليه في إقامة عشق أبدية .

وبدأ العقد الخامس من مشروع حبك المؤجل ، والذي عجزت عن إتمامه طوال تلك الأيام والسنين ، وأنت حينها كنت تضيفين لقبا جديدا إلى ألقابك ، والتي حالت دوما بين قلبي وقلبك ، فمن زوجة إلى أم وأخيرا إلى جده ، ومع هذا لا استسلم قط ، ولا أتوقف عن المسير إليك ، فبمجرد أن أتذكر دنو الأجل ، كان حبك يزداد كثافة في قلبي ، فغدوت به كحصن منيع ضد الشيخوخة المستفحلة في شتى أركان جسدي ، غير آبه بمعاناتي الممتدة لنصف قرن من السنين ، والتي عاهدت نفسي أن ألقي بها وراء ظهري في يوم لقائك ، وأنا أجدد لك قسمي بحبي الأبدي .

ولكن وبعد كل هذا الانتظار ، يتمكن رجل آخر من اختطافك مجددا قبل وصولي إليك ، ويا له من رجل لم يكن باستطاعتي التصدي له بأي حال من الأحوال ، فهو أقوى من كل الرجال ، إنه الموت ، إلا أنني لم أبكي بل ضحكت ، فلقد أصبح يمكنني الوقوف عند شاهد قبرك ، والبوح بقسم حبي إليك دون أن أخشى البشر من حولي ، أو حجارة ضريح قبرك التي سيرتد منها صوتي ، فحبي لك كان دوما أقوى من كل الحواجز المنيعة ، وقطعا ستسمعين ندائي ، وتهبين من مرقدك كمليكة متوجة على عرش قلبي ، فأضمك إلى صدري الذي ظل خاويا منك نصف قرن من الزمان .


مستوحاة من (( الحب في زمن الكوليرا )) رائعة الروائي الكبير (( غابرييل غارسيا ماركيز ))

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

إلى امرأة الياسمين


في كل ركن من أركان ذاكرتي ، تعبق رائحة ياسمينك ، فهل آن الأوان كي أعترف لك دون مواربة أو كبرياء ، بأنني يا حبيبتي اشتاقك كلما تنفس الصبح وعسعس المساء ؟

لا زلت أذكر كل التفاصيل ، لعشق أجهض في رحم الواقع ، ولقصيدة حب خطتها قلوبنا على كراسات القهر والحرمان ، ولهذا كانت السعادة في فصول حكايتنا حلما مع وقف التنفيذ .

كم كنت أتمنى لو كف المنطق في عقلك عن الدوران ، كي أضمك لصدري وأبكي على كتفك كالأطفال ، ولعلي كنت حينها سأدرك حكمة البعث من نعش الحياة التي مضت قبل لقائنا .

كيف السبيل إليك ؟ وقد أضعت كل خرائط الأمل التي قد تقودني لقلبك ، ومضيت في دروب معاكسة لدربك ، فلا حطت رحالي في أرض امرأة إلا وعزمت الرحيل كي أبحث عنك من جديد .

أين أنت الآن ؟ بل أين أنا ؟ أهو قدر يعبث بي ؟ فيجعل رجلا غيري يقطفك حين أينع زهرك ، وأنا منذ عصور أروي بذرتك بأحلامي وأنتظر حصادك في موسم من مواسم الواقع .

كلما سيداعبني عطر الياسمين ، سأظل أبكيك منتظرا معجزة تجعل الطبيعة تتضافر لتنتزعك من خلف الأسوار التي تقف حائلا بيننا ، وحتى لو استدعى ذلك أن أنتظرك دهرا ، أو أموت قهرا ، ففي كلتا الحالتين ، أنت وأنا أو أنا وأنت ، مطر وياسمين ، خلقنا لنكون معا ، فالسحاب الذي لايمطرك حمله كاذب ، والياسمين الذي لا يحتوي وجودك هو حتما زائف .

ألا زلت تتئكين على عصا المستحيل ؟ وتهشين بها أسباب الجفاء وتستعينين بها لمآرب الإذعان لصوت الضمير ، إذن ألق بها ولا تخافي أن تتلكأي في المسير ، فكل الدروب قطعا لن تكتمل نهايتها إلا بين ذراعي يا حبيبتي ، فإلى متى ستكابرين ؟

متى ستسيرين نحوي دون أن تتعثر خطواتك بسعادة قد تضيع من الآخرين ، ولماذا تكتبين على سطور أيامنا الشوق والحنين ، هل التضحية في الحب دوما تحتمل كل هذا الخسران المبين ؟

الجمعة، 2 ديسمبر 2011

سن التقاعد العربي


اكتمل نصاب العقود الستة من عمري ، أكاد لا أصدق ذلك ، إنني لا أزال على قيد الحياة ، ولم تهوي ورقة الأجل بعد ، ومع أن حالتي الصحية لم يعد فيها موضع شبر لمزيد من الأمراض الجسدية أو المعنوية ، ولكني لست مكترثا لذلك الآن ، فاليوم سأحتفل ببلوغي لسن التقاعد ، وسأحيل أوراقي إلى فضيلة محاسب الشركة ، كي أنجز معاملة مستحقات نهاية خدمتي ، والتي جاوزت الثلاثة عقود ، دون أن أتمكن خلالها من تحقيق حلم لطالما راودني براتب تختلف فيه ملامح خانته الثالثة ولو لمرة واحدة على الأقل .

ارتديت بدلتي الرسمية القاتمة اللون ، ولربما يصعب تحديد لونها على وجه الدقه ، فأنا ارتديها يوميا منذ فصل الشتاء المنصرم قبل خمسة أعوام ، وهي ملاذي في كل المناسبات من أفراح وأتراح ، ولكني أذكر أنها كانت سوداء حين اشتريتها من بائع متجول ، كان قد أقسم لي ثلاثا بأنها بضاعة تم تهريبها من اسطنبول وذلك كي لا تأخذني الهواجس والظنون وأجزم أنها قادمة من بكين .

حاولت تجنب مواجهة المرآة قبل خروجي من المنزل ، فلا أشاهد وجهي المتآكل بالتجعدات ، وعيوني الذابلة وما يحيط بها من هالات ، وشفتي المزمومتين وما تخفيان وراءهما من أسنان زائفة ، وعنقي المترهلة وقد انغرست بين كتفي المتهدلين ، وتلك السماعة اللعينة التي تحيط بأذني اليمنى ، وبقايا الشعر الأبيض الذي بالكاد يغطي ثلث مساحة رأسي ، نعم لقد بلغت من الكبر عتيا ، وتكفي نظرة خاطفة إلى الصورة المعلقة على الجدار منذ يوم زفافي كي أدرك أنني قدم في الدنيا وأخرى في القبر .

اتكأت على عصاي واسندت مايمكن اسناده من ظهري المحدودب ، ومضيت قاصدا مكان عملي ، ممتطيا حافلة النقل العام بعد أن نطقت بالشهادتين ودعوت المولى بحسن الختام وذلك عندما تدافعت من أمامي الرؤوس والأقدام بمجرد وصول الحافلة ، ولولا تدخل أهل الخير الذين هبوا لنجدتي قبل الغرق في ذلك السيل البشري الزاحف ، لكنت الآن أرقد في قبري مع زملائي الذين التحقت وإياهم بالعمل في التاريخ ذاته ، و لكنهم رحلوا عن الدنيا قبل بلوغهم لسن التقاعد المرتقب .

أبحرت في خيالي وأنا أنظر من نافذة الحافلة ، بمباراة الدوري الالماني التي شاهدتها قبل يومين وذلك عندما كانت كاميرا التصوير تتحرش بوجوه الجماهير قبل انطلاقة صافرة الحكم ، وتحديدا برجل وزوجته يتقاطعان معي في سنين العمر و يترقبان المباراة بمنتهى اللهفة ، وذراعه تحيط كتفها وقد مال رأسها على صدره ، فابتسمت ساخرا من ذلك التناقض العجيب بين بشر يقبلون على الحياة من جديد بعد بلوغهم لسن التقاعد وبين بشر اعتزلوا مباهج الحياة قبل التقاعد وبعده ، مع استثناء من يموت قهرا من الاحباط واليأس وهو لايزال في ريعان الشباب .

وصلت إلى مقر الشركة ، وألقيت التحية على موظف الأمن المتقاعد من الجيش قبل عشرة أعوام ، والذي لطالما كان يؤكد لي أن هذه الوظيفة تحتاج لخبرة رجل مثله وليس لشاب غر لا يفقه في العمل الأمني والعسكري ، وعندما دخلت البوابة الرئيسة للشركة ، استوقفني صوت أنثوي عذب قادم من نافذة الاستعلامات ، (( عفوا عمو ... كيف بقدر أخدمك )) ، التفت خلفي فوجدت فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ، وقد تدثر وجهها بمساحيق تجميلية تشبه إلى حد بعيد ما يستخدمه المهرجون في السيرك وقد امتد من خلف غطاء رأسها ما يشبه سنام الجمل ، اقتربت منها مندهشا وسألتها عن الموظفة السابقة (( أم سليم )) ، فأخبرتني أنها اصيبت بشلل نصفي بعد تعرضها لحادث سير ، فدعوت لها بالشفاء العاجل وأكدت لها أنني موظف قد تقاعد من الشركة حديثا وجئت قاصدا قسم المحاسبة لاتمام معاملة تقاعدي ، فطلبت مني الانتظار قليلا حتى تعلمهم بقدومي ، ولكن جرس هاتفها قطع حديثنا ، استأذنتني للرد وكانت المكالمة الواردة على مايبدو من صديقتها ، ومالبثت ان احتدت مؤكدة موافقتها المبدئية على تقاضي هذا الراتب ، والذي اكتشفت أنه يضاهي ضعف راتبي عندما أنهيت مشوار خدمتي في هذه الشركة الموقرة .

وبعد أن غادرت نافذة الاستعلامات ووصلت إلى دائرة المحاسبة ، استقبلني وبكل ود رئيس القسم (( أبو سمير )) بابتسامته المعتادة التي تفضح دوما صف أسنانه الأمامية البائدة منذ أمد بعيد ، ولقد تفاجأت وأنا أتمعن بتفاصيل جسده التي كانت مختزنة دوما بالشحوم والدهون ، أنها قد تضآلت وتكاد تختفي تماما ، فسألته عن سبب نقصان وزنه ، فتنهد بحسرة ، ليخبرني أنه أصيب بالسكري والضغط والبواسير في أقل من شهر واحد ، فدعوت له أيضا بالشفاء و أشفقت على حاله ، فهو لايزال يقف قبل محطة التقاعد بعقدين .

وبعد أن احتسينا كوبين من الأعشاب التي لم تحظر بعد من قائمة مشروباتنا ، قدم لي (( أبو سمير )) الشيك الخاص بمكافأة نهاية الخدمة والذي كان يمثل بمجموعه استحقاق ثلاثة رواتب وفقا للحد الأدنى في قوانين العمل ، وعندها فقدت آخر جرعة من الصبر وضقت ذرعا من هذا الظلم الذي سكت عنه منذ عقود ، فلطمت (( أبا سمير )) واعملت عصاي على رأسه العاري من الشعر وأنا أصرخ بأعلى صوتي : (( كفاكم ظلما ... كفاكم ظلما ... نريد حقنا في أن نعيش )) .

صرخت زوجتي مذعورة وبأعلى صوتها : (( استيقظ يا رجل )) ، فصحوت من نومي مذعورا ، ونظرت إلى زوجتي فوجدت أنها لا تزال في ريعان الشباب ، وتأملت وجهي في المرآة سريعا ، فاكتشفت أن ملامحي لم تتغير عن صورة يوم زفافي بعد ، حمدت رب العالمين واستعذت به من الشيطان الرجيم ، ونهضت إلى المطبخ كي أشرب كوبا من الماء وعرجت في طريقي إلى باب المنزل كي أحضر الصحيفة ، وإذ بي أقرأ عنوانا مكتوبا وبالخط العريض ، ألا وهو قرار مديرية التقاعد برفع سن التقاعد خمس أعوام أضافية ليصبح ستة عقود ونصف عقد من السنين ، فضحكت ملء فمي وبكيت حتى اغرورقت عيوني بدموعها ، فمن هو سعيد الحظ الذي سيظل على قيد الحياة حتى بلوغ سن التقاعد الجديد ؟