مندهشا ... محتارا ... متعجبا ... وكيف لا يكون ؟ وهو ينظر إلى شقيقته التي ما جفت الدموع من بين مقلتيها ، وهي تصرخ وتلطم وترتعش باكية فقدان أمها الغائبة عن المنزل منذ عشرة ساعات ، تتصل بكل الجيران والأقارب لعلها تسمع منهم خبرا عنها ، ولكن دون جدوى ، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها ، ولكن لماذا كان هو مأخوذا بفزع شقيقته وخوفها غير المسبوق على والدتها ، والتي لم يمض يوم يذكره إلا وكان صوت شجارهما يسمع من مسافة سبعة أحياء وشوارعها ، ثم يفتح الباب وهو غارق في تأملاته لهذا المشهد ، وتدخل والدته التي كانت في منزل شقيقها بعد أن أصلحت ذات البين هناك ، لتركض شقيقته وترتمي في حضن والدتها وهي تبكي ، والأم تنظر إليه وهما يتبادلان نظرات الدهشة والاستغراب لما يحدث .
وتزوج بعدها ببضع أعوام ، وكانت زوجته دائمة الشكوى من سلوكيات والدتها وتفكيرها الأرعن ، بل إنها كانت في كل يوم تشكره بعدما كان سببا في عتق رقبتها من نيران المشاكل التي لم يكن من حدود لنهايتها في أيام عذريتها ، وكان لزاما عليه أن يصلح بينهما في كل مجلس يجتمعان فيه ، وما كانت تشرق عليه شمس أو تغيب ، دون أن يهرول ما بين المنزلين ويستمع لكل واحدة وهي تبث شكواها عن الأخرى ، ويعدها خيرا بالإجابة حتى تهدأ النفوس ، حتى جاء يوم ولم يقرع جرس هاتفه اللحوح حتى منتصف الظهيرة ، فتوجس خيفة من حدوث مكروه لإحداهما ، وحين اتصل بزوجته ، جاء صوت عويلها من خلف السماعة دون أن تتمكن من الكلام ، فهب إلى المنزل مسرعا ليجدها تقف مع الطبيب عند الباب وهو يطمئنها عن صحة والدتها مؤكدا أنها ستتعافى خلال بضعة أيام .
وظل سر هذه العلاقة الغريبة بتقلباتها ما بين الحب والكراهية متكررة المشاهدات في حياته ، وهو يراقب في كل يوم مشاجرات زوجته وابنته المتمردة على كل أوامر والدتها ، ولا يظل يسأل زوجته الصبر والهوادة في التعامل مع فتاة بدأت للتو في سن مراهقتها ، ثم لا يلبث أن يستفرد بابنته في حوار صباحي حين يأخذها إلى المدرسة وهو يرجوها أن تطيع أوامر والدتها ، حتى جاء يوم وجد فيه قصاصة ورقة على الثلاجة وهو يتناول وجبة الغداء ، مكتوب عليها بخط أحمر (( بحبك يا ماما )) ، فضحك وظل غارقا في حيرة لا تنتهي من ذلك الرابط العجيب ما بين الأم وابنتها .