الجمعة، 25 نوفمبر 2011

مدارس البنات " قصة من وحي الفقر "


انبعثت الشمس من مرقدها ، وتناثرت خيوطها الذهبية في غسق الليل الراكد ، وتوارى القمر بتؤدة من كبد السماء ، فأشرقت الأرض بنور ربها ، واصطفت الطيور تشدو فوق الأغصان بصوت عذب لا يلبث أن تبتلعه المدينة بضجيجها المتعاقب على مدار النهار ، أما البيوت فلا يزال الهدوء الذي يخيم أركانها ، تترصده أجراس الساعات المتأهبة في موعدها الثابت لاستدعاء الناس مجددا للحياة والسعي في مناكبها ، فذلك موظف يسارع في الخروج من منزله باكرا كي يدرك حافلة النقل العام ، وتلك أم توقظ أولادها بقبلات على جباهم الندية وتحفزهم للنهوض بنشاط للمدرسة عند تذكيرهم باقتراب موعد العطلة الأسبوعية ، وذلك شاب وفتاة ينقبان ثلاثة صحف رسمية على الأقل ، ويدونان كل أرقام الهواتف التي قد تعبد لهما درب وظيفة يبحثان عنها منذ سنين ، وذلك على أمل إكمال نصف دينهما عند ولوج أول منعطف في تلك الطريق ، وذاك كهل لاتكاد قدميه تعينانه على الوقوف ، يستجدي دوره في طابور التأمين الصحي ولايدري إن كان الوقت سيسعفه في إدراك نافذة قبول المعاملات أم ستسقط أوراق حياته في يد ملك الموت قبل الوصول ، وهكذا تزدحم المدينة وتتعالى فيها أصوات الناس في الطرقات ، وكل يسبح في فلك حياته الرتيبة ويمني النفس بيوم قد يأتي متمردا ويعد بحياة أفضل .

وفي باحات المدارس يقف الطلاب والطالبات في طوابيرهم الصباحية أمام مدير متجهم الوجه أو مديرة لا تتقن ملامح وجهها سوى العبوس في وجوه طالباتها ، ولقد حدثت مأساة (( حنين )) في إحدى تلك الطوابير الصباحية ، وذلك عندما استدعتها المديرة للوقوف أمام جميع الطالبات وانهالت عليها بشتائم ما أنزل الله بها من سلطان ، و (( حنين )) تقف خافضة رأسها لا تجرؤ على النظر في وجوه صديقاتها وهي تتلقى دون هوادة كل تلك الإهانات ، حتى أنها لم تفكر بالدفاع عن نفسها عن ذنب لم تقترفه بإرادتها ، مما حدى بالمديرة إلى اتخاذ قرار طردها وهي مرتاحة الضمير ، فلقد حذرتها مرارا من أنها ستفعل ذلك إن لم ترتدي (( حنين )) الزي المدرسي ، ولا شك أن (( حنين )) وهي تتعرض لذلك الموقف المهين ، كانت تتمنى لو أن الأرض قد انشقت وابتلعتها ، فهي ليست متمردة على الأنظمة والقوانين ، بل إنها تعلم علم اليقين ، أن والدها لو كان على قيد الحياة لما تأخر لحظة واحدة عن شراء الزي المدرسي لها ، فهل الذنب هو ذنب والدتها التي لا تملك من الدنيا سوى راتب تقاعدي بالكاد يكفي لاطعام (( حنين )) وإخوتها ؟

ولم يكن مصير صديقتها (( أمل )) بأفضل منها ، وذلك حين وقعت في براثن المديرة عند نهاية فترة استراحة الطعام ، وذلك عندما وجدتها تعبث في سلة المهملات ، ولقد ظلت تصرخ في وجهها وتضغط بأظفارها المتسخة على ذراعها الصغير ، لعلها تكتشف سرها وتعترف لها بالذي كانت تحاول إخفاءه في سلة المهملات ، ولكن (( أمل )) لاذت في غياهب الصمت وأبت الرضوخ لتهديدات المديرة ووعيدها ، وحينها لم تتردد المديرة أيضا باتخاذ قرار الطرد مجددا بحق (( أمل )) وعدم عودتها إلى المدرسة إلا برفقة ولي أمرها ، فخرجت (( أمل )) من المدرسة والدموع منهمرة فوق وجنتيها الرقيقتين ، ولكن حزنها في تلك اللحظات لم يكن سببه قرار الطرد ، بل هو الإشفاق والخوف على والدها الكفيف إذا اعترفت له بحقيقة مصدر الطعام الذي كانت تحضره له في كل يوم بعد عودتها من المدرسة ، فكيف يمكنها أن تقول له أنها كانت تطعمه من بقايا فضلات زميلاتها ؟

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

الأمانة


كان حلما وربما قد تحقق ، وهذا هو حال كل رجل ذي حظ عاثر ، لا يتمكن من توثيق ما يتمناه من أحلام في دفاتر الواقع ، فلماذا تحقق ذلك الكابوس الذي زف له خبر ارتباطها بغيره ؟

هل خان الأمانة ونكث بالعهد ؟

أم أن قلبها ارتضى بعاشق أمين يحفظها ويصونها بعيدا عن خزائن قلبه ؟

ولكن ألا كانت ترغب بترصيد حساباتها العاطفية ومراجعة فواتير ذكرياتها قبل أن تعقد العزم على الرحيل ؟

أم أنه الصفح عند المقدرة و (( المسامح كريم )) ؟

ما كان بيده سوى الإذعان لرغبتها ، ولكنه قرر أن يقدم لها تقريره العشقي الذي قد يكون الأخير ، فكتب لها قائلا :

في هذه الليلة كانت زخة المطر الأولى ، فجلست أمام النافذة وتأملت القمر المختبىء خلف ستارات الغيوم ، واستجديته أن يبعث لك بهذه الكلمات ، والتي ما تجرأت بالبوح بها مذ يوم رحيلك ، ليس غرورا ولا زهوا ولا كبرياء ، و إنما هي بقايا من أمل كنت أعتقد أنها قد تستدعي حضورك من بين ثنايا الغياب .

ما تعودت أن ألقي بقلبي وأعرضه بثمن بخس ، ولست مكترثا إن انتهت صلاحية نبضاته المفترضة للحب ، وغدا بعدها كبضاعة كاسدة أمام قلوب النساء ، فإن قلبك إذا ما كان هو المشتري ، فلن يجدي حينها الاستدراك .

أحقا أحببت رجلا غيري ؟

أم أن (( البعيد عن العين ... بعيد عن القلب )) ؟

إذا كان هذا ما يفسر غيابك ، فالأمانة قيد التسليم ، ولك أن تستردي قلبك في أي وقت ترغبين ، ولكن قبل أن يأتي موعد الاستلام والتسليم ، دعيني في هذه الليلة أنام مطمئنا ولآخر مرة بين ذراعيك ، ولا تتركي يداي المرتعشتان شوقا إليك ، دعيني أقبل أناملك التي خطتني حبيبا لك في يوم من الأيام ، ودعيني أبكيك كالأطفال عندما يتهيأون للحظة الفطام ، فعندما ستشرق شمس الشتاء ، تكون الحكاية قد انتهت ، ولك حينها أن تنتزعي قلبك من أحشائي وترحلين .

لن أطالبك بدية لدم فؤادي المهدور ، فأنا لست أول ضحايا الحب ، ولن أكون حتما الأخير ، ولكن لست أدري لماذا معادلة الحب دوما غير متوازنة ؟

ربما قد آن الأوان لتغيير كل مصطلحات العشق ، فأنا وبعد هذا اليوم ، لن أبحث عن الحب ، بل سأجعله يبحث عني ، ولن أرضى بدور العاشق في مسرحية الحب ، بل سأكون أنا المعشوق ، ولست منذ هذه اللحظة حافظا أمينا لودائع القلوب ، فأنا لست كفؤا لهذا المنصب ، وأعلن استقالتي والتنحي عن مقعده لرجل غيري .

والآن قلبي برسم الأمانة ، فهل من امرأة أودعه إليها ؟ تحفظه وترعاه وتصونه ، وتتقن تلك المهمة التي عجزت أنا عن القيام بها ، ولكنني سأحذرها مسبقا من شرط جزائي قبل توقيع عقود الحب ، فلا تطالبني بتسديد رسوم عشقية مستحقة الدفع ، لأنني من بعدك أشهرت إفلاسي العاطفي .

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

كل عام وأنت عيدي



عندما يتأهب العيد للحضور في موعده المتغير من كل عام ، لا يكون ذلك بالضرورة مدعاة لاضطراب طقوس الناس في استقباله ، فالأسواق ستعج بالنساء والأطفال ، والطرقات ستزدحم بالمركبات ، ومحلات الحلويات والقهوة العربية ستمتلىء عن بكرة أبيها ، والصحف ستختزل مساحات شاسعة من عناوينها السياسية الرتيبة ، لتستوعب صفحاتها الترويج لعروض الرحلات السياحية واعلانات أسعار الأضاحي المنافسة في هذا العام بشكل غير مسبوق وبرامجها التقسيطية المريحة .

والجميع يتحفز للمناسبة السعيدة ويلقي وراء ظهره عبء التفكير الذي يلازمه على مدار العام ، فلا وقت الآن للتذمر من غلاء المعيشة وجنون الأسعار ، ولابأس في إرجاء الاستياء من تدهور الحال العام ، فالدنيا عيد وهذا مسوغ كاف لفرح طارىء ، يتم اختطافه عنوة من بين أضراس الشهور والأيام .

لا شك أن رتابة الأيام ستتعطل حركة سيرها في درب العيد ، وهذا سيجعل الفرصة مواتية لاغتنام لحظات من العمر المهدور ، لتحقيق مآرب استثنائية لا تتكرر ، فالزوج سيتمكن من التبسم في وجه زوجته وهما يحتسيان معا فنجان القهوة في الصباح ، والأولاد سيفرحون برؤية أبيهم في يوم غير يوم الجمعة ، والجيران سيقبلون بعضهم البعض ، والأرحام لن تشكو من القطيعة ، والناس لن تتعارك كعادتها في الطرقات ، فالكل خدر بالتسامح والمحبة وليس مشحونا بالتوتر والعصبية والمزاج السيء الملاصق لهم على مدار العام .

وأعتقد أن الحلاقين في هذه الأيام ستزول عنهم أعراض الاستياء من جفاء زبائنهم المتتابع لهم في الآونة الأخيرة ، وخصوصا مع تغير الجدول الزمني لمواعيد الحلاقة التي كانت في أحسن حالاتها لا تتجاوز الثلاثين يوما ، لتصبح حاليا من شهرين إلى ثلاثة شهور ، حتى بات الحلاقون لا يميزون ملامح زبائنهم كلما حضروا إليهم بعد طول غياب ، وكأنهم كانوا يرقدون في رقيم أهل الكهف ، وهذا إنما يؤكد على مصداقية المثل القائل (( الناس ما معها تحلق )) .

الدنيا عيد ، وأنا ألاحظ أنني احتفي بقدومه في هذا العام بنشوة استثنائية ، وليس ذلك بسبب فتاة بغدادية أطالت التحديق بي في أثناء مروري العابر من أمام طاولتها في أحد المولات التجارية ، وليس ثمة ارتباط لهذا بقدرتي على تلبية نداء أشواقي المتداعية لدمشق ، والتي ما وطأتها منذ عيد الأضحى في العام الماضي ، ولا اعتقد أنه بإمكاني تعليل ذلك بملاءتي المالية التي تجعلني لا أتردد في الاتصال بأرقام الهواتف المدرجة في متن عروض الرحلات السياحية ، فأغمض عيني وأفتحها لأجد نفسي في رحلة روح علاجية .

أستطيع اليوم أن أجتهد في الإجابة وأسترسل في وصف حالي بعد لقائك ، ففرحتي لن يفسرها إلا أنت ،
ولذلك دعيني أخالف كل الأجواء المتعارف عليها ، وأهرب من أزقة الأسواق وأزمات المرور ، كي اختبىء بين ذراعيك وأقول لك بعفوية الأطفال (( كل عام وأنت عيدي )) .

أتمنى للجميع عيدا مباركا ... ويتجدد لقاؤنا بمشيئة الله تعالى يوم الجمعة الموافق 18/11/2011