الجمعة، 24 يونيو 2011

بعوضة

ابتدأ نهاره ببشرى سارة (( سيارته مسروقة )) وهي في الحقيقة الملكية الفردية الوحيدة التي تملكها في حياته الجميلة ، قلب كفيه واستغفر رب العباد ، ثم انطلق راجلا إلى أقرب مركز أمني وقدم بلاغا مفاده (( سيارتي التي تجاوزت خمسة عشر عاما ، قد تم اختطافها من أمام منزلي ، ولكني أعتقد أنها هربت مني ، فهي ما شاهدت معي إلا الحظ العاثر ، فأنا رجل كلما ظن أن الدنيا تبتسم له قليلا ، انهالت عليه سخطا وغضبا ولؤما أكثر )) .

في المساء ، كان يجلس على أريكته بقميص ذو أكتاف عارية ، مزهوا بعضلاته المفتولة ، ويتابع التلفاز كعادته في سهرة صيفية رتيبة ، لقد كان قراره في الانعزال عن الخلائق مدعاة للتفكر ، إذ أصبح ضيق الأفق ، ولا يلجم غضبه أمام أدنى قول أو فعل قد يثير حفيظة شياطين الاستفزاز لديه ، وهو الذي كان في زمان مضى ، بشوشا ، سمحا ، طيبا ، ولهذا اختار العزلة ، بعد أن فقد نفسه في داخل نفسه .

يوقف حاكوم التلفاز على قصة فيلم تروي معاناة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية بفترة الكساد الإقتصادي الكبير مطلع القرن الماضي ، ويلاحظ كيف أن لقمة العيش جعلت أفراد المجتمع يخلعون رداء انسانيتهم ، ويتصارعون كوحوش الغاب من أجل البقاء ، فتسللت الهواجس وسيطرت على مجريات الأفكار في عقله ، ليعقد المقارنات بين أمريكا اليوم وأمريكا في أمس الكساد العظيم ، ثم لا يلبث أن يتجنب مقارنتها بما يجري فوق ساحات الدول العربية من نكبات اقتصادية لاتعد ولاتحصى ، كي لا يسأل نفسه عن السبب الذي جعل النفوس ودماءها وأموالها وأعراضها رخيصة بين أبناء الوطن الواحد .

يتنقل إلى محطة تلفازية أخرى ، فيجد فيلما يتحدث عن مشروع لمخلوقات فضائية ، يهدف إلى شطب ذاكرة أم اختطفوا لها ولدها ، كي يثبتوا أن قوة القمع تتجاوز حدود روابط الأمومة ، وحينها فمن الممكن استئصالها من جذورها ، ولكن يا لذلك المشهد العظيم ، والمخلوق الفضائي يختطف من عقل تلك الأم كل ذكرياتها مع ولدها منذ لحظة ولادته ، ليسألها بعد ذلك (( هل كان لك في يوم ولد ؟ )) ، فإذ بذاكرتها الملغاة تعود إلى الوراء ، إلى مشاهدات كانت لأيام حملها بذلك الولد في أحشائها ، ليصيب المخلوق الفضائي ضرب من المس والجنون ، فيعترف بفشل قوته في القضاء على تلك العلاقة الإنسانية العظيمة ، وعندها ترواده الأفكار مجددا ولا يتمكن من طردها وهي تعقد له مقارنة بين تلك القصة وبين قصة أم تشاهد ولدها ينكل به لأسباب سياسية ويطالبوها بعد ذلك بالنسيان .

يبتسم ساخرا ويلتفت من غير سابق إنذار إلى كتفه الأيسر ، فيجد بعوضة قد حطت عليه وبثقة لامتناهية ، تتأهب لغرز إبرتها في جسده واستباحة هدر دمه دون أدنى خوف أو تردد ، فما كان منه إلا أن أعد العدة للإنقضاض عليها بصفعة ترديها إلى أشلاء متناثرة ، فالدماء التي تجري في عروقه باهضة الثمن ، وكل من تسول له نفسه بالتعدي عليها ، لابد أن يكون مصيره الموت لا محالة .

وفي لحظة كلمح البصر ، تنطلق صفعته صوب البعوضة ، لتستقر أصابع كفه كالوشم فوق جلد كتفه من قوتها ، ولكن البعوضة تمكنت من الفرار ، ليلعن ويشتم ويصرخ كالمجنون بصوت تعالى صداه في أرجاء الحجرة : (( من أنت ... من أنت ... من أنت ... أتعتقدين أنك تستطيعين هدر دمي وأنت مجرد بعوضة ... أين ذهبت ... حتما سأجدك ... وعندها أقسم أن أمزقك إربا )) .

يهدأ قليلا ويعاود التنقل بين محطات التلفاز الفضائية ، يناظر ساعته ، فيتذكر موعد نشرة الأخبار ، يتابعها باهتمام شديد ، ويجد أن القاسم المشترك بين جميع الأنباء التي سمعها ، عاملا ثابتا يتأكد مع كل تجربة حياتية ، يثبت كم هي دماء الشعوب العربية رخيصة على ولاة أمرها ، ينكمش فوق أريكته ، ويشعر بضمور يسري في عضلاته المفتولة ، ثم لاتلبث أن تصيبه نغزة في كتفه الموشوم ، ليجد البعوضة قد عادت أدراجها كمليكة متوجة لتوها على عرش أرض ما ، لم يجرؤ على إعادة الكرة بصفعها مجددا ، لأنه أدرك حينها أن البعوض يقارع الموت كي يعيش ، أما الإنسان العربي فيقارع الحياة ولكنه لا يعيش .

الجمعة، 17 يونيو 2011

شمس نيسان

من الذي لم يعشق الربيع برموز بداياته السعيدة ، وأشاح يستجدي نهايات الخريف وأحزانه الكئيبة ؟

ومن الذي كان لا يعتقد بوجود مدارات تحلق في فلكها أقلام البوح المهاجرة إلى فضاءات الروح ؟

ومن الذي كان يجزم أن الحروف حين تبتسم فإنها حتما ستهرم وتشيخ ؟

ومن الذي حظي بقراءة امرأة تتقن كل أدوار الأنوثة دون أن يغمض عينيه مرارا ويفتحها تكرارا كي يقتنع بحقيقة وجودها ؟

ومن الذي قال أن الكلمات تموت حين تقال ؟

اليوم عقدت العزم على نبذ كل تلك التساؤلات وراء ظهري ، كي احتفل بك يا نيسان على طريقتي ، فعندما أشرقت شمسك في سماء المدونات ، أدركت حينها أنني كنت مخطئا في بحثي عن شمس الشتاء من خلف ستارات السحب المظلمة ، واكتشفت أن مجرى النهر الذي يفيض بالحنان ، وشقائق النعمان برياحين محبتها ، وأشجار السنديان بشموخها ، كلها كانت تجتمع بين ثنايا حروفك .

يا ليت نساء الأرض يتعلمن منك كيف تكون الطفولة ، وكيف تكون المراهقة ، وكيف تكون الصديقة ، وكيف تكون الحبيبة ، وكيف تكون الزوجة ، وكيف تكون الأمومة ، كيف تكون المرأة التي يرفع الرجال لها قبعاتهم احتراما واجلالا .

أنا أعلم كم أنت متواضعة ولا تحبذين المديح والثناء ، وأعلم كم أنت عفوية وتلقائية في تعاملك مع كل من اجتمعت بهم فوق الصفحات الالكترونية ، وأعلم أنك لست بحاجة لكلماتي كشهادة على روعة شخصيتك وتميزها ، ولكن اعذريني في هذا اليوم ، فالعراك قد طال بيني وبين قلمي بشأنك ، فأنت قادمة من زمان مفقود في ذاكرة العصور ، فيه تجتمع القلوب على المحبة الصادقة دون تملق ولا نفاق ، فهنيئا لكل أرض أشرقت فيها شمسك يا نيسان .

كل عام وأنت شمس المدونات ... كل عام وأنت ست النساء ... كل عام وأنت وجميع من أحبك بألف ألف خير .

هذا الادراج هو هديتي المتأخرة بعيد ميلاد ( نيسانة التدوين ) ولن أقول المزيد فالكلمات تعجز عن احتواء شمس لا تغيب عن قلوبنا قط :)

الجمعة، 10 يونيو 2011

لحظة يأس

بماذا كنت تمني النفس أيها الرجل ؟

بامرأة أسطورية تكون هي وطنك وأهلك ، وتصطبر على جنونك وهذيانك ... وتدرك حقيقة قلبك الذي لا يرضى بأنصاف الحلول العشقية ؟

عذرا منك إذن ، لأن ما تبحث عنه لن يكون في يوم قريبا منك أو في متناول كف يدك ... أتدري لماذا ؟

لأنك ولدت في الزمن الخاطىء ، وتواجدت في المكان الخاطىء ، واعتقدت أن السير مع التيار سيصل بك حتما إلى بر الأحلام ، ولكنك غفلت وأطبقت عينيك عن قراءة صفحات نصيبك وقدرك من هذه الدنيا ، والآن تحاول جاهدا أن توازن بين خيبتك و أملك ، ولكن فات الآوان على ذلك أيها الرجل ؟

من سيسمع ارتداد أصوات القلوب المستصرخة لحظة المنية ؟

لا أحد ... لن يسمعها في هذا الزمان أحد ....

الجمعة، 3 يونيو 2011

ثورة الاشتياق

أتعتقدين يا حبيبتي أن جفاءك سيثني ثورة الاشتياق أو يخمدها ؟

إذن فهذه رسالة أشواقي الثائرة على ذلك التهديد والوعيد ، والذي أقسمت جهد أيمانك أن تستأصلي به كل لوعة وحنين تسري بين ثنايا روحي ، وتمضي منه قدما بجبروت أنوثتك الطاغية في الحسن ، شهقة ... شهقة ، و نبضة ... نبضة ، وتنهيدة ... تنهيدة .

في كل يوم يحترق قلبي بألف ألف شعلة شوق ، وأنت هناك في برج عاجي ، تتربعين على عرش نساء الأرض ، وتراقبين منه ثورة أشواقي المتداعية في فرض حصارها ، تارة تبتسمين ، وتارة تؤكدين أن ملكة الملكات ، وتارة تختبئين وراء جدر من حمى الصمت ، وتارة ترسلين لي مرتزقة من أشباه النساء ، لعلي أنهزم أمامهن وأعلن استسلامي وخضوعي عن قراري في محاكمة قلبك لدى محكمة عشقي الأبدية ، والتي قررت سلفا أنها ستحبك في كل يوم أكثر .

ياسمينة بلاد الشام هلمي ، إنني لا أخشى على نفسي أن أتعطر بعبق جسدك ، كدليل دامغ على ولائي المطلق وانتمائي إليك ، وعندها فليرسلوني وراء غياهب الشمس ، وليغرسوا خناجرهم في قلبي ، فإما قلبك أو الموت دونه .

أواه كم اشتقت لتنهيدتك المحمومة يا حبيبتي ، لازالت تسري بين شراييني وأوردتي ، لم أكن أدري حينها كيف أثور لأخلع الأغلال والقيود التي لطالما رضيت بهوانها خوفا من عاقبة المصير ، بل إنني غفلت عن تعلم دروس الثورة في ميدان الفسطاط وبين أزقة سيدي بوزيد ، رضيت بحياة تبعدك عني ، وسرت في دمائي أوبئة نمطية خانعة ، تكتسي بأقنعة زائفة بليدة ، فأصبحت حيا بلا حياة ، وميتا دون نعش ، أنام وأستيقظ في يوم ، لا يختلف فيه إلا تعداد أرقام متتابعة في ذاكرة الزمن .

أتراه قد كتب علينا أن لا نلتقي ؟

أم أننا كنا دوما قريبين في المكان ذاته ، ولكن أقدارنا كانت مستعصية بحواجز الآخرين ؟

إسألي جبل قاسيون ، وأسألي بحر بيروت ، كم بحثت عنك ، وكم ذرفت دموعا ما انفكت عن مناجاتك ليل نهار ، ولكنني كنت أجوب في فلوات الفراغ وحيدا ، وأنادي عليك بحروف اللغة التي استثنت اسمك تواطؤا مع النصيب والأرزاق والآجال ، لترحلي إلى أقصى الكرة الأرضية قبيل اللقاء ، بعد أن كان يفصل بيننا مسيرة ساعات ، فكيف هو الوصول إليك الآن ؟

يا ليت كلماتي تحملني وتطير بي إلى ميناء ذراعيك ، فتمسدي جبيني بأصابعك الثلجية ، وتضميني بشوق محموم ، كطفل عابث أدرك أن الحياة بنعيمها ، لا تضاهي نشوة الفرح بحنان صدر الأم ، فهل من الممكن أن تترك الأم ولدها وهو يتوسلها بالمجيء ؟

لست مقتنعا بكلامك يا مروان خوري عندما تغنيت حزينا بقصر الشوق الذي ذاب العمر ببناءه على سفوح من الرمال ، لأن الحلم سيكتمل ويكبر ، ولن يجدي بعد اليوم الانتظار والترقب والصمت ، بل المضي إلى الأمام في ثورة الاشتياق ، لأن القلب ... يريد ... لقاء الحبيب .