الجمعة، 9 مارس 2012

مهاجر أم مهجر ... ما الفرق ؟

حين كنت مهجرا من موطني الأصلي قبل زهاء ستة عقود ، مشيت حافي القدمين ولم ألتفت خلفي ، واعتقدت كما اعتقد غيري ، أنها ستكون مجرد أيام معدودات ، ثم نعود مع العائدين ، فوليت أمري إلى ولاة أمري ، وجلست على عتبة السكن المؤقت أنتظر رحمة ربي ، ولكن الأيام بدأت تمضي ، وظل الوضع على ما هو عليه ، باستثناء فارق طفيف حدث خلال عقدين من الزمان ، أتم فيه (( أولاد العم )) ما خططوا له بمحاضراتهم الجامعية في اوروبا والعالم الجديد ، حين كان أجدادي منهمكين بالحرث والنسل ، ودفع الجزية (( للآغا والبيك والباشا )) ، حتى دقت ساعة الصفر ، واستقبلت أرض الميعاد ساكنيها الجدد .

عشت بعدها حياة (( بالطول والعرض )) ، ورضيت بالأمر الواقع ، وعدت إلى تجارتي ومهنة آبائي وأجدادي ، وجنيت أموالا لا تأكلها النيران ، ومع كل دورة أيام كانت تكمل عدتها ، حافظت على حذاقتي في إعادة تشغيل أرباحي ، وتجنبت وساوس زوجتي بتجميدها في شراء أراض أو عقارات ، وكنت مؤمنا أشد الإيمان ، بمثل ذائع الصيت عن سيرة الحياة السعيدة ، ولذلك كنت أعيش يومي ولا أفكر بالغد قط ، وهذا جعلني أبعثر أموالي أولا بأول ، بين سياحة وأكل وشرب وزواج متعدد الخانات من مثنى وحتى رباع ، لجنسيات انطلقت من بلاد الرافدين مرورا ببلاد الشام وختاما في أرض الكنانه ، ولأنني شخص شديد الالتزام بما قاله (( اهل زمان )) ، فلقد كانت جيوبي تفرغ حمولتها في كل ليلة كي أنام خفيفا وأنا أهذي في المنام (( الطايح رايح وبكره يوم جديد )) .

وظلت الحياة تسير بتؤدة دون أية مشاكل تذكر ، سوى حنين لا ينطفىء لهيبه إلى أرض الأنبياء ومهد الديانات ، وترقب شديد لكل قرارات القمم العادية وغير العادية ، وتلخيص قراراتها وتأويل احتمالات تطبيقها ، ولم أفقد الأمل يوما بصدق نوايا قادة الأمة في خوض غمار حرب التحرير المقدسة وما تبعها من معاهدات سلام كانت تطبق بحذافيرها حصريا لمصلحة (( أولاد العم )) ، والخطابات السياسية تتوالى ، وأنا لا أزال أهتف بحياة القادة المناضلين وجهودهم الحثيثة في ضمان حق العوده ، حتى جاء يوم ضجرت فيه من الدوران في المتاهة ذاتها ، وقررت أن أكسر مفتاح داري الذي اجتهدت بالحفاظ عليه معلقا على الجدار الرئيس في بيتي المؤقت ، ليصبح بذلك بيتي الدائم ، ومقر انطلاقي إلى مثواي الأخير ، ورضيت بالأمر الواقع ، وعقدت العزم على مواصلة العيش بعد أن حذفت من ذاكرتي كل فصول حياتي قبل الهجرة وكأنها لم تحدث في يوم من الأيام .
 

ولكن قبل بداية القرن الحادي والعشرين بعقد من الزمان ، تغيرت مخططاتي في الحياة مجددا ، بعد أن ضاقت بي الأرض بما رحبت ، تبعا لموجات تهجير أخرى حدثت على أيدي (( إخوتي )) ضد (( إخوتي )) ثأرا من نصرتهم لقائد سيتم إعدامه كالكبش في المستقبل ، فتضاءلت لقمة العيش ، وتراجعت تجارتي في سوق اشتدت المنافسة فيه بشتى ضروب الأعمال ، فصبرت وتأقلمت مع الوضع الذي لم يحافظ على ديمومته ، بعد أن تم استقبال موجة هجرة أخرى ، حدثت تصفية لزعامات لم يعد الغرب بحاجة لها ، وفي هذه المرحلة بدأ الفقر يتسلل من كل أبواب الرزق ، وانقلب المجتمع بطبقاته التي لم تكن متباينه ، ليغدو عاليها سافلها والعكس بالعكس.

وتتابع ضنك الحياة يوما بعد يوم ، ولم يعد من ضرورة لإفراغ جيوبي في الليل ، بعد أن قدت بمصاريف العيش التي عجزت مصادر دخلي الشحيحة عن رتقها ، ومع هذا حافظت على إيماني بوجوب الصبر وانتظار الفرج المرتقب على أيدي ولاة الأمر ، فخرجت أهتف بحياتهم بعد كل مؤتمر إقتصادي يحارب الفقر . 

وحين بدأ اليأس يتسلل إلى أصحاب النفوس الضعيفة الإيمان ، خرجوا إلى الشوارع والميادين العامة يطالبون بالثورة على أنظمة الظلم والاستبداد ، ولأنني مواطن صالح ، اعتزلت بيتي في أوقات الفتن تلك ، إذعانا لوصايا خطيب صلاة الجمعة ، ولم أشكك برواية المسؤول المتجهم حين أعلن على الملأ أنها مؤامرة من (( أولاد العم )) لقصم تقدم وازدهار البلاد ، ورسم خارطة مستحدثة للأمة التي أجهدها تعدد طوائفها ومنابتها وأصولها ، ومع هذا وذاك ، فكل يغني على ليلاه ، ويردد واثقا (( اللهم نفسي ومن ورائي الطوفان )) .


واليوم اكتشفت أنني لم أكن مهجرا عن بلادي ، بل أنا مهاجر عن الدنيا منذ أمد بعيد ، فكيف أنكر ذلك وأنا أسير في نطاق دروب لم يكن ثمة إرادة لي في اختيارها ؟  القادة والوعاظ والسياسيون و الإقتصاديون و الأحزاب الموالية أو المعارضة هم من يختارون ، وأنا دوري تنفيذ رغباتهم وأهوائهم  ، فهل أنا حقا على قيد الحياة ؟  

هناك 8 تعليقات:

  1. kpمهجرين ومسيّرين وعايشين حياة لم نخترها ولكننا نقنع انفسنا اننا راضيين عنها بالتي هي أحسن :)

    و
    صباح الفل
    مبكر اليوم ؟! شكلو الزهق ضارب اطنابه:)

    ويا ريت اشرف ترجع التعليقات زي الاول لحسن ابعتلك أم عمر بالصاعق تبعها :))
    مش بس عشان الفولو اب كمان بوكس التعليقات هلا مش باين عندي الا نصه وعم بكتب عالعمياني وان شاء الله ما يطلع فيه خرابيش املائيه واذا طلع الحق عليك :))

    ردحذف
    الردود
    1. نيسانة التدوين :)

      نعم نعم نعم ...درجة الزهق وصلت عندي مليون :)

      رجعنا التعليقات زي ما كانت ... إنت بتأمري يا ست الكل ... وبرضو بلاش ينالنا من الصاعق العمري جانب كمان :)

      فعلا نقنع أنفسنا بحياة لم نجد أنفسنا فيها قط ...

      كل الود

      حذف
    2. الله يسعدك اشرف ,كلك زوء وانا عارفه انك بترجع التعليق زي الاول بدون تهديد:) بس حبيت انكش ام عمر شوي...والظاهر انه "سمعان" مو هون :))

      حذف
    3. نيسانة التدوين

      يسعدك مساكي :)

      هي شكلها تقلانه علينا :)

      حذف
  2. وشكرا لانك اضفت قائمة المشاركات ...في مواضيع قديمه الك تستحق القراءه مرات ومرات

    سلام

    ردحذف
    الردود
    1. شرف كبير والله شهادتك الغالية بمواضيعي القديمة :)

      حذف
  3. في سؤال كتير كان محيرني نحنا مخيرون في حياتنا ام مسيون مع الوقت عرفت انو نحنا مخيرون من بعد قرار المهد الى قرار اللحد
    اما مهجرون او مهاجرون فهاي اكيد نحنا النا ايد فيها

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا أهلا لبنى

      نعم نحن مخيرون بقراراتنا ولكن الظروف من حولنا تجبرنا في كثير من الاحيان على فعل ما لانرغب فيه قط وهنا تمكن المعضلة الرئيسة ...

      أما الحديث عن الهجرة فهو حديث ذو شجون ماذا سنقول منه أكثر من الذي قلنا :)

      كل الود

      حذف