الخميس، 29 مارس 2012

الساحرة المستديرة أم القاتلة ؟

القصة ذات شجون ، فهي تنطلق من مشهد سخيف في أحد البيوت التي كانت في يوم مطمئنة ، بعد أن اجتمع اثنان من الأخوة في سهرة كان ظاهرها عائلية ، في حين كان باطنها غل وحقد متوارث عبر الأيام بين الشقيق الذي كان على الدوام مضطهدا من شقيقه الأكبر في كيفية تصريف شؤون الحياة ، وهذا لم يستدع سوى مرور بضع دقائق من مباراة الدوري الإسباني بين (( ريال مدريد وبرشلونه )) و التي كانا يتابعانها برفقة أبنائهم وزوجاتهم ، حين هتف أحد الأبناء بعبارة استفزازية بعد هدف (( ميسي )) الأول في مرمى غريمه قائلا : (( رح نمسح فيكم الأرض )) ، لتأخذ ولد عمه حمية (( مدريدية )) ويشتمه بلعن والده ، وهذا كان سببا كافيا لصفعه من عمه ، ورد تلك الصفعة بمنفضة السجائر التي هوت بسقوط حر على جمجة رأسه من شقيقه الأكبر ، ونشوب مشاجرة كبرى لم تنتهي إلا بجريحين من أفراد العائلة بحالة خطرة بين الحياة والموت .

وتزداد سخافة المشهد وألمه اتساعا ، عندما يردد أحد المندسين عبارة استفزازية في أحد ملاعب كرة القدم بمدينة عربية ، لينجم عن ذلك سقوط أكثر من خمس وسبعين قتيلا ومئات الجرحى ، فضلا عن قطيعة دبلوماسية كادت أن تحدث بين دولتين عربيتين بسبب مباراة حاسمة في التأهل لنهائيات كأس العالم ، و يكفي التأمل قليلا  بما يتم ترديده في ملاعب الكرة من هتافات عنصرية أو شتائم بذيئة تطال في مناسبات عديدة عرض أوطان وبلاد مغتصبة ومحتلة ، وهذا إنما يدل على مدى وعي ونضوج عقول المجتمعات التي تطالب جهارا ونهارا بالحرية . 

وليس أجمل من كل هذا ، سوى سلوكيات بعض شيوخ البلدان النفطية في الآونة الأخيرة ، ففي الماضي كانوا يشحذون أموالهم ويتسابقون على عارضات الأزياء والممثلات و الراقصات والمغنيات المغناجات من مختلف الأعراق والألوان والجنسيات ، ولكن في هذه الأيام اختلفت ميولهم وأهوائهم ، أو بعبارات أخرى ، فقد أصابهم السأم من المفاخرة بالنساء ، وبدأوا يبحثون عن طرائق أخرى في إثبات مشيختهم حول العالم بأسره ، إلى أن اهتدوا إلى مجال سيجعل صيتهم يجاوز عباب السماء ، فتهافتوا على شراء أندية كرة القدم الأوروبية بحجة أنها ستكون مشاريع استثمارية ناجحة على المدى المتوسط والطويل .

حبكة القصة تكتمل عند التفكير في نهائيات كأس العالم التي ستستضيفها إحدى البلدان الخليجية ، والأموال الطائلة التي سيتم انفاقها في سبيل الإعداد لهذا الحدث العظيم ، ثم تأتي الشعوب (( الكومبارس )) في هذه القصة وتأكل بعضها في حروب أهلية بحثا عن لقمة العيش ، ولكن ماذا لو تخيلنا أن مثل هذه الأموال قد تم إنفاقها في مشاريع تنموية تحارب الثالوث المرعب في عالمنا العربي (( الفقر والجهل والتخلف )) ؟

كنا نضحك في الماضي على أقوال وأفعال العقيد الليبي البائد ، ولكن ألم يكن محقا في يوم من الأيام حين سخر من قطعة الجلد المستديرة تلك ؟ وحرم ممارستها على الأراضي الليبية قبل أن يعود عن قراره الذكي بغير قصد طبعا ، بسبب عشق أحد أبنائه لممارستها .

أذكر دراستي لمادة عن التسويق في أيام الجامعة ، وتحديدا للمبحث الذي كان يتحدث عن المزيج السلعي ، وهو عبارة عن مجموعة من المنتوجات يتم بيعها من خلال شركة أو علامة تجارية واحدة ، وما يميز ذلك المزيج من حيث قوة مبيعاته وسطوة تأثيره على المستهلكين ، قد يحدث من خلال رواج منتج واحد فيه فقط ، بمعنى أنه لو كان لدى شركة منتج يباع بكثافة ، فإنها تستطيع أن تبيع منتجات أخرى تكون مرافقة لذلك المنتج الرئيس بصرف النظر عن جودتها أو رداءتها ، ومنها على سبيل المثال : (( شركة نستله )) التي بدأت بمنتوجات الحليب واعتمدت عليها لاحقا لترويج كل منتوجاتها الأخرى من الشوكولاته والمياه المعلبة وغيرها ، وأيضا شركة (( نيفيا )) التي انطلقت من خلال كريم للعناية بالجلد ، وتوسعت بعد ذلك لتشمل مختلف مستحضرات التجميل للعناية بالبشرة والجسم .

ما أود قوله من ذكري لموضوع المزيج السلعي ، أن كرة القدم أصبحت المنتج الرئيس في ترويج كل ما يدفع بالإنسانية للإهانة ، فإذا اردت أن تروج لإشعال حرب طائفية  ، فليس عليك سوى التحضير والاستعداد جيدا لبث إعلانها من خلال مباراة كرة قدم ، وإذا أردت أن تسوق وتلمع قناة فضائية ، فما عليك سوى أن تضم لباقات برامجها أهم دوريات وبطولات كرة القدم الأوروبية والعالمية ، وإذا أردت نجاح مقهى أو مطعم ، فما عليك سوى تجهيزه وإعداده بأحدث التقنيات التي ستبث مباريات كرة القدم ولن يكون لرداءة الطعام أو الشراب المقدم من أهمية بعد ذلك ، ولكن يظل السؤال في خاتمة هذه القصة ، هل كرة القدم حقا هي الساحرة المستديرة التي تأسر القلوب ؟  أم أنها القاتلة التي تسفك دماء العقول وتلقيها في غياهب التخلف والغباء ؟ 

هناك 4 تعليقات:

  1. روعه اشرف...منتهى الروعه

    كتبت فأجدت وعبرت عنا كلنا .

    ربنا يرحمنا من الجهل والتخلف اولاً وبعديها كل شي بيصير احسن .

    صباح الفل وجمعتك مباركه

    ردحذف
    الردود
    1. نيسانة التدوين

      أشكرك وجدا ... صدقا هي تدوينة سطرتها بألم قد فطر الفؤاد على أمة تذبح بعضها لأسخف الأسباب :(

      لك مني كل الود

      حذف
  2. اشرف يا اشرف
    دائما أتسال لماذا كره القدم بالذات هى الرياضه التى يعشقها الجميع لا اجد جمهور لكره السله او كره الماء يضاهى جمهور كره القدم ولا اجد اجابه لسؤالى
    ستظل هى الساحره المستديره القاتله
    اتعجب كره يلهث وراءها الجميع ويقتل البعض من اجلها
    يا للعجب انضحى بالغالى من اجل الرخيص
    بوست مميز أحييك عليه

    ردحذف
    الردود
    1. هبه

      تساؤلاتك في مكانها ... فكم هو غريب أمر كرة القدم ... ولكن الأغرب من هذا كله كيف يكون من الممكن تسيير كل تلك الجماهير وجرفها نحو معارك طاحنة بين الأخوة وأبناء البلد والأمة الواحدة :(

      لك مني كل الود

      حذف