الجمعة، 2 ديسمبر 2011

سن التقاعد العربي


اكتمل نصاب العقود الستة من عمري ، أكاد لا أصدق ذلك ، إنني لا أزال على قيد الحياة ، ولم تهوي ورقة الأجل بعد ، ومع أن حالتي الصحية لم يعد فيها موضع شبر لمزيد من الأمراض الجسدية أو المعنوية ، ولكني لست مكترثا لذلك الآن ، فاليوم سأحتفل ببلوغي لسن التقاعد ، وسأحيل أوراقي إلى فضيلة محاسب الشركة ، كي أنجز معاملة مستحقات نهاية خدمتي ، والتي جاوزت الثلاثة عقود ، دون أن أتمكن خلالها من تحقيق حلم لطالما راودني براتب تختلف فيه ملامح خانته الثالثة ولو لمرة واحدة على الأقل .

ارتديت بدلتي الرسمية القاتمة اللون ، ولربما يصعب تحديد لونها على وجه الدقه ، فأنا ارتديها يوميا منذ فصل الشتاء المنصرم قبل خمسة أعوام ، وهي ملاذي في كل المناسبات من أفراح وأتراح ، ولكني أذكر أنها كانت سوداء حين اشتريتها من بائع متجول ، كان قد أقسم لي ثلاثا بأنها بضاعة تم تهريبها من اسطنبول وذلك كي لا تأخذني الهواجس والظنون وأجزم أنها قادمة من بكين .

حاولت تجنب مواجهة المرآة قبل خروجي من المنزل ، فلا أشاهد وجهي المتآكل بالتجعدات ، وعيوني الذابلة وما يحيط بها من هالات ، وشفتي المزمومتين وما تخفيان وراءهما من أسنان زائفة ، وعنقي المترهلة وقد انغرست بين كتفي المتهدلين ، وتلك السماعة اللعينة التي تحيط بأذني اليمنى ، وبقايا الشعر الأبيض الذي بالكاد يغطي ثلث مساحة رأسي ، نعم لقد بلغت من الكبر عتيا ، وتكفي نظرة خاطفة إلى الصورة المعلقة على الجدار منذ يوم زفافي كي أدرك أنني قدم في الدنيا وأخرى في القبر .

اتكأت على عصاي واسندت مايمكن اسناده من ظهري المحدودب ، ومضيت قاصدا مكان عملي ، ممتطيا حافلة النقل العام بعد أن نطقت بالشهادتين ودعوت المولى بحسن الختام وذلك عندما تدافعت من أمامي الرؤوس والأقدام بمجرد وصول الحافلة ، ولولا تدخل أهل الخير الذين هبوا لنجدتي قبل الغرق في ذلك السيل البشري الزاحف ، لكنت الآن أرقد في قبري مع زملائي الذين التحقت وإياهم بالعمل في التاريخ ذاته ، و لكنهم رحلوا عن الدنيا قبل بلوغهم لسن التقاعد المرتقب .

أبحرت في خيالي وأنا أنظر من نافذة الحافلة ، بمباراة الدوري الالماني التي شاهدتها قبل يومين وذلك عندما كانت كاميرا التصوير تتحرش بوجوه الجماهير قبل انطلاقة صافرة الحكم ، وتحديدا برجل وزوجته يتقاطعان معي في سنين العمر و يترقبان المباراة بمنتهى اللهفة ، وذراعه تحيط كتفها وقد مال رأسها على صدره ، فابتسمت ساخرا من ذلك التناقض العجيب بين بشر يقبلون على الحياة من جديد بعد بلوغهم لسن التقاعد وبين بشر اعتزلوا مباهج الحياة قبل التقاعد وبعده ، مع استثناء من يموت قهرا من الاحباط واليأس وهو لايزال في ريعان الشباب .

وصلت إلى مقر الشركة ، وألقيت التحية على موظف الأمن المتقاعد من الجيش قبل عشرة أعوام ، والذي لطالما كان يؤكد لي أن هذه الوظيفة تحتاج لخبرة رجل مثله وليس لشاب غر لا يفقه في العمل الأمني والعسكري ، وعندما دخلت البوابة الرئيسة للشركة ، استوقفني صوت أنثوي عذب قادم من نافذة الاستعلامات ، (( عفوا عمو ... كيف بقدر أخدمك )) ، التفت خلفي فوجدت فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ، وقد تدثر وجهها بمساحيق تجميلية تشبه إلى حد بعيد ما يستخدمه المهرجون في السيرك وقد امتد من خلف غطاء رأسها ما يشبه سنام الجمل ، اقتربت منها مندهشا وسألتها عن الموظفة السابقة (( أم سليم )) ، فأخبرتني أنها اصيبت بشلل نصفي بعد تعرضها لحادث سير ، فدعوت لها بالشفاء العاجل وأكدت لها أنني موظف قد تقاعد من الشركة حديثا وجئت قاصدا قسم المحاسبة لاتمام معاملة تقاعدي ، فطلبت مني الانتظار قليلا حتى تعلمهم بقدومي ، ولكن جرس هاتفها قطع حديثنا ، استأذنتني للرد وكانت المكالمة الواردة على مايبدو من صديقتها ، ومالبثت ان احتدت مؤكدة موافقتها المبدئية على تقاضي هذا الراتب ، والذي اكتشفت أنه يضاهي ضعف راتبي عندما أنهيت مشوار خدمتي في هذه الشركة الموقرة .

وبعد أن غادرت نافذة الاستعلامات ووصلت إلى دائرة المحاسبة ، استقبلني وبكل ود رئيس القسم (( أبو سمير )) بابتسامته المعتادة التي تفضح دوما صف أسنانه الأمامية البائدة منذ أمد بعيد ، ولقد تفاجأت وأنا أتمعن بتفاصيل جسده التي كانت مختزنة دوما بالشحوم والدهون ، أنها قد تضآلت وتكاد تختفي تماما ، فسألته عن سبب نقصان وزنه ، فتنهد بحسرة ، ليخبرني أنه أصيب بالسكري والضغط والبواسير في أقل من شهر واحد ، فدعوت له أيضا بالشفاء و أشفقت على حاله ، فهو لايزال يقف قبل محطة التقاعد بعقدين .

وبعد أن احتسينا كوبين من الأعشاب التي لم تحظر بعد من قائمة مشروباتنا ، قدم لي (( أبو سمير )) الشيك الخاص بمكافأة نهاية الخدمة والذي كان يمثل بمجموعه استحقاق ثلاثة رواتب وفقا للحد الأدنى في قوانين العمل ، وعندها فقدت آخر جرعة من الصبر وضقت ذرعا من هذا الظلم الذي سكت عنه منذ عقود ، فلطمت (( أبا سمير )) واعملت عصاي على رأسه العاري من الشعر وأنا أصرخ بأعلى صوتي : (( كفاكم ظلما ... كفاكم ظلما ... نريد حقنا في أن نعيش )) .

صرخت زوجتي مذعورة وبأعلى صوتها : (( استيقظ يا رجل )) ، فصحوت من نومي مذعورا ، ونظرت إلى زوجتي فوجدت أنها لا تزال في ريعان الشباب ، وتأملت وجهي في المرآة سريعا ، فاكتشفت أن ملامحي لم تتغير عن صورة يوم زفافي بعد ، حمدت رب العالمين واستعذت به من الشيطان الرجيم ، ونهضت إلى المطبخ كي أشرب كوبا من الماء وعرجت في طريقي إلى باب المنزل كي أحضر الصحيفة ، وإذ بي أقرأ عنوانا مكتوبا وبالخط العريض ، ألا وهو قرار مديرية التقاعد برفع سن التقاعد خمس أعوام أضافية ليصبح ستة عقود ونصف عقد من السنين ، فضحكت ملء فمي وبكيت حتى اغرورقت عيوني بدموعها ، فمن هو سعيد الحظ الذي سيظل على قيد الحياة حتى بلوغ سن التقاعد الجديد ؟

هناك 6 تعليقات:

  1. السلام عليكم

    فمن هو سعيد الحظ الذي سيظل على قيد الحياة حتى بلوغ سن التقاعد الجديد ؟

    رزقنا الله واياك طول العمر وصالح العمل اخى الكريم :)

    ان الله لايسألنا عن عمل الغد فلا تحمل له هما وسارع بالخيرات بيومك

    دعهم يسنون القوانين ونحن نستمر فى عجلة الحياة نسير
    فما اسرع تبديل الحكومات كل يوم لقوانينهم

    ماعلينا سوى ان نعطى يومنا الذى نحن فيه اخلاصنا ودع الايام القادمه لله تعالى :)

    تحياتى وتقديرى لك

    ردحذف
  2. كلنا إلها يا صاحبي؟

    خوفتنا "أكثر" من المجهول المعلوم!
    :(

    ردحذف
  3. ام هريره

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... أضم صوتي لصوتك بالدعاء ويارب ان يكون عمرا مقترنا بصالح العمل :)

    بالفعل كلامك صحيح فعمل اليوم لليوم وغدا يخلق الله تعالى ما لا نعلم :)

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  4. صديقي هيثم

    المجهول المعلوم ... روعة هذه العبارة :)

    الله يسترنا من القادم :)

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  5. ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
    هههههههههههههههههههههههههههههه
    دخلتني في الجو على رأي لطيفة "في نص الجو بطفي الضو"
    جميلة هذه المقالة مع أنها مؤلمة بواقعها المرير

    ردحذف
  6. نسرين

    هو واقع مؤلم نعيشه وبكل أسف ولكن يظل التفاؤل كشمس الربيع التي ننتظرها كي تشرق في سماء أيامنا القادمه :)

    سعيد وجدا أن التدوينة قد أعجبتك :)

    لك مني كل الود

    ردحذف