الثلاثاء، 15 مارس 2011

الأم الغافلة

عادة ما ترتبط أسباب انكسار قلب الإنسان بفجيعة ناجمة عن خسارات متتالية في ميدان الحب ، وقد يحدث أحيانا أن يلملم ذلك القلب أشلاء عواطفه المكسورة ، ويستعيد تجميع إطار لوحة قلبه مستعينا بلاصق ذي فعالية مضادة للكسر ، فالكراهية إذا وطأت القلب وطردت الحب ، فإنه سيكون حينها قاسيا عصيا على الخدش .

وهذا ما حدث مع ذلك الصبي الذي ملأت الكراهية الزائفة قلبه لأقرب الناس إليه ، فهي بالفعل كراهية زائفة ، إذ كيف من الممكن أن يكره الولد أمه التي لا يضاهيها في قلبه محبة نساء الأرض أجمعين ؟

ولكل من يعتقد باستحالة حدوث ذلك ، فإن هذا الصبي سيخبركم عن سبب شقائه وتعاسته ، وكيف أن قلبه أصبح أقسى من قلب (( الزير سالم )) عندما كان يشرب دماء أبناء عمومته دون شفقة ولارحمة ، كي يثأر لدم أخيه المهدور بسبب ناقة البسوس .

يقول الصبي : لقد كنت أنا وشقيقي الذي يكبرني ببضع أعوام ملتصقين في كل مكان ، ولانفترق إلا عندما نجتمع بوالدتنا ، والتي كنت دوما أراقب بريق عينيها باهتمام كلما نظرت إلى أخي ، وكيف أن ذياك البريق يسارع بالاختفاء عند تلاقي عيوني بعيونها ، فتسارع إلى استدراك موقفها بابتسامة مغتصبة من شفتيها ، كي تخفي وراءها سيل العواطف الجارف نحو مصب قلب واحد ، ولست أدري إن كان قلبي شديد الملوحة لدرجة أن تأبى محبتها الحقيقية أن تختلط فيه ولو لمرة واحدة ؟

أذكر في أحد الأيام عندما طالبنا المعلمون في المدرسة كي نكتب موضوع تعبير بمناسبة عيد الأم ، وأذكر حينها أننا استلمنا تلك الأوراق المكتوبة بحبر قلوبنا ، مغلفة ببطاقات معايدة جميلة ، كي نهديها لوالدتنا عندما نعود إلى المنزل ، ولقد هرولت سعادتنا عندما قرع جرس الانصراف المدرسي ، متجاوزة مسير أقدامنا ، كنا متلهفين لقراءة ملامح وجه أمي وهي تقرأ ما خطته أيدينا ، وبالفعل فقد كادت حرارة قبلات والدتي تحرق بطاقة أخي من فرط سعادتها وهي تقرأ حروفه ، ولكن تلك الحرارة التي وصلت إلى قمة الغليان العاطفي ، انقلبت إلى كتل كثيفة من الجليد ، وهي تقرأ بعجالة ما كتبته لها ، لتشكرني بعدها بعبارات مبتذلة من قاموس المجاملات اللغوي .

وعلى الرغم من ذلك الشعور الذي بدأ يقلب حياتي إلى جحيم لا يطاق ، كان لا يزال يراودني طيف أمل ، في أن تستدرك والدتي فظاظة فعلها ، مع أنني على يقين تام بعفوية سلوكها ، ولكنني في النهاية كائن بشري مجبول من طينة مشاعر وعواطف لابد لها من مراعاتها ، ولكنها ظلت تغمض عينيها غير آبهة بقلبي الذي داست عليه مرارا بكعب محبتها الأحادية لشقيقي ، وجفائها المتواصل لجميع محاولاتي في التقرب من قلبها .

وبدأت مياه الكراهية بالغليان في قلبي مع مرور الأيام ، وأنا أشاهد فخرها واعتزازها بشقيقي في أي تجمع لنا بين الأقارب والمعارف والأصحاب ، وتجاهلها المطلق لوجودي وكأنني لم أرقد في رحمها لتسعة شهور ، وكم هاجمتني الظنون بأنني لست ولدها ، وبأن الدماء التي تجري في عروقي لم تختلط يوما بدمائها ، وتأكدت كل هواجسي عندما جاهرت بين الجموع أنها تفتخر بندبة بطنها المنقوشة على جسدها ، كوشم مغال في محبتها لشقيقي مذ يوم ولادته ، وأنها ستظل ترفع هامتها به إلى أن تواري التراب .

ولأنني لا أريد أذيتها بكلمة عتاب ، قررت أن أهجر بيتها ، وأن لا أعود إليه قط ، وإنني أعلم أنها لن تكترث لغيابي ، ولن تفتقد لكلماتي التي لطالما جهدت في محاولة استرضائها ولكن دون أدنى جدوى ، لن أقول لها وداعا ، فليس لدي القدرة على مواجهة أغلى الأحباب في لحظة وداع ، سأظل دوما أراقبها من بعيد ، وسيكفيني أن أجدها سعيدة مع الأصدقاء والأحبة الذين يحيطون بها من كل جانب ، وسأكون مطمئنا على الدوام ، وهي بجانب شقيقي الذي آثرته بمحبتها وحنانها ، وفخرها واعتزازها ، فأنا على يقين تام بمقدار محبته وخوفه عليها .

يقولون أن محبة الآخرين لنا ، لا تختلف في مقاديرها ، تماما كما هو حال الرزق والأجل ، فهي محفورة على أوراق حياتنا من قبل أن يخلق أبونا آدم ، ولكن هل هذا يعني أن تفرط الأم في إظهار محبتها لأحد أولادها دون أن تراعي مشاعر إخوته المتعطشين لقطرة حنان من قلبها ؟

هناك 18 تعليقًا:

  1. خلي الأمهات تجاوب و بعدها بنشوف :)))))

    *غشاش: الساعة لسا مو 12! - صباح الفراشات

    ردحذف
  2. أشرف صديقي ...

    دائما موعودين بقطعك الادبية الرائعة

    لا أدري بماذا أعلق رغم قرأتي للبوست 3 مرات

    رائع هذا البوح من بطل قصتك المظلوم حتى وإن كان عن أعز الناس

    شكرا لقلمك

    ردحذف
  3. السلام عليكم ورحمة الله

    قصة ذات هدف خطير وتحدث كثيرا

    كنت وانا صغيرة لا اتخيل وجود مثل هذه الامور فى الحياة وانها فى الروايات والمسلسلات فقط لانى بفضل الله استمتع باسرة طيبة وام حنون وكل يعرف ماعليه وماله
    وتقريبا البيئة تؤثر فى استيعاب خيال الاطفال لذلك لم اتخيل وجود مثل هذه الامهات فى الحياة
    الى ان صادفت مؤخرا ولد يعيش هذه القصة بتفاصيلها ووصل به الامر بالفعل ان ترك بيت اسرته واتانى مستنجدا من هذا الشعور القاسى وحاولت تنبيه الام لكن الشخصية والمبادىء والقناعات الخاصة عندما تترسخ على مر السنين يكون من الصعب حينها ان ننزعها او نبدلها .... للاسف ننسى تعاليم ديننا الحنيف بالعدل بين الاولاد حتى فى الابتسام

    تظل منظومة حياة متكاملة الشقى والسعيد الطيب والخبيث القاسى والحانى ... لنعرف بالنهاية قيمة نعم الله علينا من اسرة طيبة وام حنون

    اشكرك اخى العزيز على موضوعك الهادف بارك الله فيك
    واسأل الله لهذا الولد الخلاص والرشاد مما هو فيه

    تحياتى لك وتقديرى

    ردحذف
  4. أشرف كلماتك تنطق بالأسلوب الأدبي الرائع رغم قسوة الفكره فالأمومه غريزه عاطفيه أستنكر أي شائبه تشوبها و ربما و أنا أقرأ شعرت أن صاحب الروايه ربما ظلمها ربما لم يحاول أن يقرأها و انما كانت عيناه عليها و هي مع أخاه, فحتى لو الحب مرتبط بالقدر فحب الأم هو حب أقوى من القدر و لا شئ يمكن أن يجعل الأم تفرق بين أبناءها الا اذا كانت شاذه عن القاعده العريضه جداً.
    و ترك المنزل هو حل سلبي لأن مواجهة الأمر ستكون أفضل ربما لو تحدث معها في لحظات خاصه بهما فقط ستتفهم و تعود لصوابها لكن فراق بين أم و ابن هو أقسى ألم في رأيي لهما.
    تحياتي لك و أشكرك مره أخرى على جمال تشبيهاتك و حروفك الذهبيه
    دمت بود

    ردحذف
  5. مش عارفه يا اشرف!!!!

    هل ادافع عن هذه الام ام استنكر فعلها؟؟؟!!!
    فمهما قلنا بأن الام أو الاب يحبون ابنائهم بنفس الدرجه الا أننا نعلم جيداً ان دائماً هناك طفل في العائله دايما "ميزانه طابش" على ميزان اخوته وحصته من الدلال والاهتمام اكثر من حصة البقيه

    الاب عادة ما يميل أكثر الى احد ابنائه الذكور الاكثر شبهاً له سواء في الشكل او التصرفات

    والام تميل عادة الى الاصغر بين ابنائها الذكور او الى البنت الكبرى التي تكون الاقرب لوالدتها.

    لكنك تجدهم دائماً يكررون ان محبتهم لابنائهم واحده
    وكلهم بنفس الغلاوه ولا يصل الامر الى حد التفريق الواضح

    لكن ان يصل الامر الى الحدّ الذي ذكرته في ادراجك فهذا ما يفطر القلب ويجعلني اتألم لحال هذا الاخ.
    و أدعو لمن هم جميعا في مثل حالته ان يحنن قلوب امهاتهم عليهم.

    **اعجبتني الفقره الاخيره عن تقسيم المحبه والرزق

    نهارك فل اشرف

    ردحذف
  6. الإفراط في الحب ّ مسموح و لكن إظهار ذلك يجب أن يكون مشوبا ً بالحذر

    *the motherhood side of me speaking*

    :p

    ردحذف
  7. هيثم

    معلش بدك تعذرني هاليومين لأنو رح أغش بالمواعيد عشان ع الساعه 12 بكون عندي موعد مهم جدا ( مجنون بيرين ) :)

    يسعد صباحك

    ردحذف
  8. نادر

    أشكرك ومن كل قلبي يا صديقي على كلماتك الرائعة دوما بحقي وإنها لشهادة كبيرة من مبدع كبير ... ألف ألف شكرا يا صديقي :)

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  9. أم هريره

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... أهلا وسهلا بك يا أختي العزيزه ... بالفعل هي قصة تحدث على أرض الواقع وقد لايشعر الأب أو الام بذلك قط وإنني حقا لا استغرب أبدا أنك صادفت ولدا يعيش قصة كهذه ... المشكلة جد خطيره وتتطلب الكثير من الاهتمام في طريقة المعاملة بين الابناء والسبب أن مثل هذه الامور قد ينجم عنها سلوك عدواني قد يؤدي إلى أذية كل من يحيطون بذلك الطفل وهنا تكون الكارثه .

    وكما قلتي فإن ديننا الحنيف قد اهتم بهذه الأمور كثيرا وبالطبع فإن في سيرة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام أروع الأمثلة في كيفية اظهار المحبة بالعدل ليس فقط بين الابناء والزوجات بل على مستوى العلاقات المجتمعية كافه .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  10. فراشة التدوين

    شهادتك بكلماتي لها مكانة كبيرة جدا في قلبي وبالطبع فإن غريزة الأمومة ليس كمثل عواطفها من عواطف أبدا في البشريه ... إنها حب المرأة الأصدق والأعمق والأجمل ... قد يكون صاحب الرواية قد ظلمها ولكن يا ترى هل كان هذا الصبي يتخيل أم أن إفراطه في محبته لأمه جعله يشعر بغيرة شديدة عليها حتى من شقيقه ؟

    الفراق ليس حلا وهذا أمر اتفق معك عليه تماما ... قد يعود هذا الصبي الذي نسجته من خيالي إلى رشده ويتحدث مع والدته في الموضوع يوما ما ... من يدري :)

    إنه لفخر واعتزاز لي ماقلته بحق حروفي يا فراشة التدوين :)

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  11. نيسانة التدوين

    وأنت قلتها " نعلم جيداً ان دائماً هناك طفل في العائله دايما "ميزانه طابش" على ميزان اخوته وحصته من الدلال والاهتمام اكثر من حصة البقيه "

    بالفعل كلامك صحيح فالأب يميل إلى الابن الاكثر شبها به والام كذلك تميل بالعادة إلى آخر العنقود أو البنت البكر ... أتفق معك تماما .

    إن حد التفريق الذي ذكرته في الادراج هو حقا شعور مؤلم جدا ... وبخاصة عندما يأتي من أغلى الأحبه .

    الفقرة الأخيرة هي تعميم لحالة تلك العلاقة بين الصبي ووالدته على بقية العلاقات التي تجمع الناس ببعضهم ... فتجدين أشخاصا يحبون أشخاصا ويتمنون لو أنهم يدركون مقدار محبتهم ولكن هؤلاء الاشخاص في المقابل قد لا يبادلونهم نفس مقدار الحب أو قد يحبون غيرهم وهكذا تدور دائرة المحبة المكتوبة سلفا كالرزق والاجل تماما ... فمهما كان الجهد والتعب المبذول في كل تلك الامور الثلاثة لن يتال المرء إلا نصيبه من بين كل واحد منها .

    يسعد صباحك

    ردحذف
  12. هيثم

    " ولكن إظهار ذلك يتوجب أن يكون مشوبا بالحذر "

    الجانب الأمومي لديك يتحدث بحكمة في غاية الروعه :)

    أشكرك وجدا يا صديقي

    ردحذف
  13. عفريت الكلمة
    قصتك مقتلعة من جذور الواقع ولا اخفيك او اكذب واقول انها صورة غير حقيقة بلى هي حقيقية
    فالعدل صعب في كل شيء حتى في مشاعرر الامومة لكن
    القلب الذي استقى من حمل الهم والرضاعة والسهر والتعب لن يستطيع ان يبخل عن محصول العذاب
    انما هو القلب الذي يميل الى ناحية ميولا خفيفا
    ففي كل الاوساط تجد حبيب مامتو ولا حبيب باباه
    هو شعور لا يمكن التحكم فيه
    لكن الذكي هو الذي يتمكنن من اخفائه قدر الامكان
    فعلا عفرتتك فاقت الوصف
    تحياتي

    ردحذف
  14. Mar7ba Ashraf
    First of all how are you hopefully it’s all right?
    Second this subject hit the spot for me in personal level in both ways. first in my own childhood and now in motherhood. In child hood my parents both equally showed preference towards my brothers it got to the point that they shipped sort of speak to Jordan to live with my uncles and the stayed here with the brothers in the states. What you think of that? How about for preference?
    On motherhood sadly to say but I can’t really help to think all mother do go through this especially when they have 2 kids only to show some more little bit emotion to youngest over the older to some point . but wallah and I say on all behalf mothers there it’s my situation we don’t do it on purpose wallah it’s just how it is , we t treat the baby of the family more in spoil way , but we equally love them both and we’ll do the best to treat the same with duties and responsibility and love .
    It really hurt our feeling especially my older son when he comes up to me and says mama you love my baby brother more than me bass wallah we don’t. I don’t know how to explain it better, but sadly there are mothers out there like the mother in the story. Inshallah inshallah I never get to be like here someday I don’t feel like this story spoken to me personally to some level.

    Thank you Ashraf have nice day.

    ردحذف
  15. شهرزاد التدوين

    بالفعل كلامك صحيح فالعدل صعب في كل شيء حتى في مشاعر الأمومة ولكن كما قلتي فإن القلب الذي تحمل الهم والرضاعة والسهر من غير المعقول أن يحصر محبته في اتجاه ولد واحد فقط دون أن يأخذ الاولاد الآخرون ولو قليلا من تلك المحبة ... ولكن يبقى المعيار الأهم والذي أثني فيه وجدا على كلامك في ذلك الذكي الذي يتمكن من اخفاء ميله تجاه أحد الاولاد قدر الامكان .

    كم أنا سعيد بكلامك الجميل حول (( عفرتتي )) :)

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  16. نوارة المدونة

    أنا بخير والحمدلله تعالى وأتمنى أن تكوني أنت أيضا بألف ألف خير :)

    أو تدرين يا نور وأنا أقرأ تعليقك وكيف أن هذا الادراج قد لامس حياتك الشخصية عندما كنت تعيشين دور الابنه والآن وأنت تعيشين دور الأم ... وكذلك لا أدري لماذا حدث عندي ربط غريب عجيب وسألت نفسي وودت أن أشاركك فيما أفكر به ... لو رزقك الله تعالى بابنة في المستقبل قد تجدين نفسك وبشكل لاشعوري تهتمي بها بشكل مفرط لأنك قد تجدين فيها صورتك وأنت صغيرة وبالوقت ذاته ربما يكون هو خوفك الشديد من أن تعاني تلك الابنة كما حدث معك في الماضي وهنا بالفعل مفترق طرق ... محبة أبنائك الذكور من جانب ومحبة ابنتك التي تخافين عليها من أن يتكرر معها نفس القصة ... أعتذر يا نور قد أكون بالغت في الخيال حول معطيات الموضوع ولكن صدقيني لو جاء يوم في المستقبل ورزقت بفتاة بمشيئة الله تعالى ... فكوني حريصة من تلك النقطه .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  17. امي ثم امي ثم امي لحد اخر يوم في عمري
    الام مدرسه اذا اعدتها اعدت شعباً شيد العراقي

    ردحذف
  18. عبد الله المسوري

    أرحب بك أجمل ترحيب في مدونة أفكار وتساؤلات ...تشرفت وجدا بزيارتك وأهلا وسهلا بك دائما ....

    معك كل الحق يا أخي فالأم مدرسة فيها يتتلمذ الأجيال ...

    لك مني كل الود

    ردحذف