الثلاثاء، 1 فبراير 2011

الدرويش

مذ كان في المدرسة الإبتدائية ، ووالدته تفرط بتوصيته في كل صباح وهي تدس له شطيرة (( الزيت والزعتر )) في حقيبته الصفراء الصغيرة ، كي لايشارك الأولاد في الصف بلعبة تكرار الكلمات المتشابهة الحروف ، ولكنه لم يكن يفهم سبب إصرار والدته على وصيتها ، وهو الذي يحلم في كل ليلة أنه يذهب إلى المدرسة ويهزم الأولاد جميعا في سرعة اندفاع لسانه بالنطق دون أية عثرات .

تبدأ حصة اللغة العربية ، وتطالبه المعلمة بقراءة أنشودة فلسطين الخالدة ، فيقف مرتبكا ، ليس بسبب عدم حفظه للنشيد ، بل لخوفه من انقطاع صوته أثناء انتقاله بين الكلمات ، يقف صامتا كصخرة تتلاطم عليها أمواج متتابعة من الهواجس والأفكار ، لتقطع المعلمة صمته بصراخها ، فيما إذا كان قد حفظ النشيد ، فيستجمع أنفاسه ، ويفتح فمه مسرعا ، ولكن الكلمة الأولى ظلت حبيسة لسانه لثوان مرت عليه كدهر ، قبل أن تتحرر وتندفع بثمانية حروف من أصل حروفها السته (( ف ... ف ... فلسطين )) ، ويسبق نطقه للكلمة التالية ، ضحكات الأولاد الساخرة ، والتي احتلت فراغ الصمت الذي سبق شروعه بالإنشاد ، لتعاود المعلمة صراخها ، ويصمت الجميع بإذعان تام ، فيكرر محاولته لإكمال النشيد وبإصرار أكبر ، ويفلح في إنشاد الشطر الأول بصوت عذب وجميل (( فلسطين داري ودرب انتصاري )) ، ثم لايلبث أن ينزلق صوته بعدها في هاوية التلاشي بفم فاغر عاجز عن النطق ، وفي هذه الإثناء احتدم الصراع بين عقله ولسانه وهو يملي عليه النطق بمطلع الشطر الثاني (( تظل بلادي هوى في فؤادي )) ، إلا أن لسانه تعثر مجددا في أول كلمة ، مرددا حرف التاء ثلاثا ، لتتعالى الضحكات ، وتقلب المعلمة كفيها آسفة على حاله ، وتشكره على اجتهاده في المحاولة ، بكلمات لم تمنع دموعه عن الجريان .

تأتي العطلة الصيفية ، والتي يعتقد أنها ستكون ملاذه الآمن من سخرية الآخرين لطريقة نطقه ، فيصطدم بسؤال إمام المسجد له بعد صلاة الجمعة ، عن سبب عدم التحاقه مع أولاد الحي بدورة حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام تلاوته ، ولايتركه إلا بعد أن يحظى منه بوعد على حضور الدرس بعد صلاة المغرب ، ينظر إلى السماء ويتمنى لو أن الشمس في هذا اليوم لاتغيب ، ولكنها تسرع في الاختفاء وراء الجبال على غير عادتها في أيام الصيف ، فتنعقد حلقة الدرس ، ويجلس على يسار الإمام ، آملا أن ينقذه آذان العشاء قبيل مجيء دوره في التلاوة ، فقد علم من صديقه المشارك بتلك الدورة ، قيامه بذلك الفعل المتعمد دائما ، إلا أن الأمام وعلى غير عادته ، يباغت خطته باقتراح مناداة الأسماء بشكل عشوائي ، ويقع عليه الاختيار الأول ، ليتلعثم عند التعوذ ، وينطق البسملة بدءا بلسان صامت ، فيتهامس الأولاد فيما بينهم مستهزئين ، ويتبع همسهم زجرة عيون الإمام الغاضبة ، وتلاوته للآية الأولى من سورة المسد ، كمحاولة لمساعدته على كسر حاجز الخوف من النطق ، وبالفعل نجحت مبادرات الإمام وتمكن من نطق أول كلمتين وبدون تردد (( تبت يدا )) ، ليعجز مجددا عن التفوه بكنية من وعده رب العالمين بنار ذات لهب ، وفي تلك اللحظات وبينما كانت همسات الاستهزاء تتهيأ لاعتصار الدموع من عينيه اليائستين ، تأتي بشرى الإمام مطمئنة إياه ، أن أجر قراءته مضاعف في ميزان حسناته عمن سواه بإذن الله تعالى .

يعود إلى المنزل ، ويثب إلى صدر أمه باكيا ، فتربت على رأسه وتضمه بعزم أكبر كلما أجهش بالبكاء ، فهي لاتجد مناصا في حل عقدة لسانه ، إلا بالدعاء لرب السماء والأرض ، لإنها تتذكر جيدا ماقاله الطبيب لها قبل سنتين ، إذ ليس هنالك من علاج لحالة ولدها كي ينطلق لسانه بالكلام دون توقف ، بيد أنها تذكرت فجأة الحديث الذي دار بينها وبين إحدى صديقاتها ، والتي أكدت لها أن علاج ولدها هو في تناول كميات من (( الفستق الحلبي )) ، وروت لها قصة ابن أخت جارة عمتها ، والذي كان لايتكلم أبدا ، حتى بدأت والدته بإطعامه الفستق في كل يوم قبل وبعد وجبات الطعام ، فتمكن وخلال أسبوع فقط ، من الكلام وبشكل أفضل من الكبار ، وبالفعل بدأت والدته ترسله في كل يوم لشراء الفستق وتحثه على تناوله بالطريقة التي وصفتها صديقتها ، ولقد ظل يأكل الفستق بعدها حتى بات مدمنا عليه ، لدرجة أنه لو تأخر عن تناوله يوما ، يصاب بحالات ارتعاش غير قابلة للتأويل والتفسير ، وعلى الرغم من كل هذا ، فقدرته على النطق لم تتغير .

لم يكن حاله في شبابه أفضل من طفولته ، فلقد أطلقوا عليه في الحارة لقب (( الدرويش )) ، ولم يكن السبب في تلك التسمية ناشئا عن صعوبات النطق التي يعاني منها فحسب ، بل لأنه كان أيضا يكظم غيظه بين محيط عمله ومكان سكنه من سخرية الآخرين واستهزائهم به ، ولقد كان يحدث في كل يوم جمعة ، تجمهر حشد كبير من الناس أمام المطعم لشراء الفول والحمص ، وبمجرد قدومه يبدأ الأولاد بالتصفيق والهتاف ، أما صاحب المطعم فلا يتورع عن تقليد طريقته بالكلام وهو يأخذ منه النقود لتلبية طلبه ، فيعج المطعم ببكاء المتواجدين فيه ، ليس بسبب الحزن طبعا ، بل من كثرة الضحك .

وكعادته يخرج من المطعم وهو يتمتم : (( سامحكم الله يا أخوتي )) ، ليخترق مسامع كل من في المطعم دوي كوابح سيارة وهي تحاول جاهدة التوقف قبل دهس فتاة كانت تحاول عبور الشارع ، فيرمي (( الدرويش )) صحن الحمص ، ويقفز كالفهد ملتقطا الفتاة قبل ثانية من اصطدام السيارة بها ، فيصاب جميع من كان في المطعم بحالة ذهول تام ، وهم يكادون لايصدقون ما رأته عيونهم للتو ، ويتبع ذلك نوبة ندم تجتاح قلوبهم وقد امتزجت بألم الحسرة على فظاعة ماكانوا يفعلونه بحق ذلك (( الدرويش )) ، ثم مالبثوا أن تداركوا موقفهم بالركض نحوه جميعا وهم يبكون ، ليبتسم حينها ويقول لهم وبدون تلعثم : (( أنا أحبكم جميعا )) .

تكثر في مجتمعاتنا ظاهرة السخرية والاستهزاء من الأشخاص الذين لديهم عيوب خلقية ، ولكنهم لايعلمون أن العيب ليس في الخلقة ، بل في الخلق السيء الذي لايجدي معه جمال المظهر .

هناك 16 تعليقًا:

  1. مشكلة والله عنجد!!!وكتير كتير بتأثر على نفسية الطفل ....حزنتني عليه هالطفل من خلال وصفك :(
    أحيانا الطفل بحاول يعوض نظرة الإنتقاص اللي بنظرلو المجتمع فيها بإنه يبين إنو كتيير انسان منيح وصالح ومتعاون ويستميت بإنو يبرز حاله أكتر ليثبت إنو مش هيك زي ما بقولو !!!
    المجتمع عنــا أغلبه مريض نفسيا وبدو بس شغلة ليتفشش فيها ويضحك عليها ...
    الآباء والأمهات هما اللي بدهم ترباية بالأول اللي ما بنهروا أولادهم لما يشوفوهم بستهزءوا على الناس التانية ....

    ردحذف
  2. اضافة رائعه الى روائعك استاذي اشرف , اعذر تقصيري بالتعليق على مشاركاتك مع العلم اني اقرئها جميعها , لكن هذه المشاركة كان لها طعم اخر و أثر اخر في نفسي
    ابدعت كعادتك
    تقبل مروري

    ردحذف
  3. آآآآآآآخ يا أشرف،
    آخر 3 أسطر حكاية ما بعدها حكاية!

    لن أزيد بل سأنتظر التعليقات :)

    أشكرك

    ردحذف
  4. المشكلة في المجتمع الذي يعتمد في حكمه على الاخرين من خلال مظهرهم أو طريقة كلامهم ، متناسين انه هناك خلف كل هذه المظاهر الخادعة قلب يخفق وبقوة .. اما بالنسبة للسخرية فهي داء المجتمع بشكل عام .
    يسعدني المرور والتعليق .

    ردحذف
  5. Mar7ba ashraf

    what a sad story but sadly so true ,sad there is people like that in our life’s ,that make fun of people like that .
    I kind of relate to the boy a little bit but in different way back when I used to live in Jordan when I was little girl ,back in elementary school even up to high school .people and kids in and out school or on the way home, would tease me because of my weight and I could hear them ,and at that time I used to cry and get up set ,but now (since am still heavy lol) I don’t care any more like that man in the story I just pass it by and say it’s Allah yasm7hom what ever /
    ;.

    I just wish that people stop judge others over how they look or talk or feel, it’s not nice and disrespectful
    I say to those people if you have something nice to say, say it if you do not keep it you you are self.

    Thank you ashraf for the post have nice day.

    ردحذف
  6. مؤلمة و واقعيه جدا قصتك

    اعتقد ان اللي بستهزء من اي انسان -اللي بحملو عيوب خلقيه او اصحاء - بكون عنده مرض نفسي و ضعف ثقه بالنفس بدفعه لانه يستمتع بالاستهزاء بالاخرين,و لحتى يحجب الانظار عن نفسه و يوجهها للتانين

    ردحذف
  7. orangee

    بالفعل كلامك صحيح جدا ... فمثل هؤلاء الأطفال تتأثر نفسيتهم وبشكل سلبي من جراء نظرة الانتقاص لهم واعتقد أن عملية التعويض التي تتحدثين عنها قد تقطف ثمارها وبشكل جيد من خلال تفجر موهبة ابداعية لديهم والتاريخ يشهد على العديد من الامثلة على ذلك .

    المشكلة كما قلتي تكمن في المجتمع وفي أسس التربية وهذا يتطلب الكثير من مراجعة الحسابات لدى العديد من الناس .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  8. دكتور

    كم هي عذبة حروفك وكلماتك بحقي ... صدقا هنالك كلمات تنطق لتعبر عن صدق ما يجول في خاطر قائلها وأنا دائما كنت ولازلت أعتبرك واحدا من هؤلاء ... أنا لا استطيع أن أفرض محبة كتاباتي على كل الناس ولكن يكفيني وجود اشخاص مثلك يقدرون ويحترمون ما اكتب ولاتعتذر ابدا يا صديقي عن التقصير في التعليق بل على العكس أنا من يجب عليه أن يعتذر منك لأنني تأخرت كثيرا في اكتشاف من أحب مدونتي دون مصالح .

    كل الود لحضورك الأكثر من رائع

    ردحذف
  9. هيثم

    دعني أردد معك الـ (( آآآآآآآآآآآخ ))

    لأنها بالفعل هي أساس الحكاية ...

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  10. وجع البنفسج

    يا ابنة فلسطين الغالية ... كم أسعدني مرورك وتعليقك وكم تشرفت بتلك الرياح الالكترونية التي هبت تحمل لي رائحة أمي الحبيبة والتي أحلم في كل يوم أن تحتضنني ولو لدقيقة ... مرحبا بك وأهلا وسهلا بك دائما في مدونة أفكار وتساؤلات :)

    نعم معك كل الحق في إسقاط التهمة على مجتمعاتنا التي باتت تعتمد كما قلتي في حكمها على الآخرين من خلال مظهرهم وطريقة كلامهم فقط ... لقد غفلوا عن محبة القلوب الحقيقية وأصبحت السخرية والاستهزاء آفة المجتمع وبكل أسف .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  11. نوارة المدونة

    كم تألمت وأنا أقرأ تعليقك وكم أحييكي على روعتك في الحديث عن تجربتك الشخصية وأنت في سن الطفولة والمراهقة بكل عفوية وبدون أي حرج ... بالفعل أرفع القبعة لك احتراما ...

    إنني أضم أمنيتي لأمنيتك في أن يتوقف الناس في إطلاق أحكامهم على الآخرين من خلال أشكالهم ومظهرهم أو طريقة كلامهم وكما قلتي فإذا كان لديهم شيء حسن يودون التعبير عنه فليقولوه وبخلاف ذلك فليحتفظوا لأنفسهم بما هو سيء .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  12. ويسبر

    بالفعل كلامك صحيح ... فالكثير من هؤلاء الذين يستهزئون هم في حقيقة الأمر لديهم مشكلة نفسية وضعف ثقة بالنفس ويعتقدون أنهم بذلك يبعدون الأنظار عنهم حتى لايلتفت الناس لعيوبهم ... كلام منطقي جدا .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  13. "لايسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم"
    لو طبقنا هذه الآية مش هيحصل حاجة غير أن الحب هيتنشر
    وياريت اى حد قبل ما يستهزأ من حد يعرف أنه بيسخر من خلق الله لأن محدش بيختار شكله

    ردحذف
  14. موناليزا

    في البداية أحمد الله تعالى أنك بخير ...لن تكفي الكلمات أبدا للتعبير عن حزني على مايحدث في مصر الحبيبة ولكن لايسعني إلا أن أقول حسبي الله ونعم الوكيل على هؤلاء الجبابرة الظالمين والذين لم يتورعوا عن أذية الشعب الحر الأبي ...

    بخصوص الادراج فليس هنالك بالفعل أصدق من كلام الله عز وجل والآية التي ذكرتها من سورة الحجرات لو تم تطبيقها في حياة الأفراد فلن نشاهد وبكل تأكيد تلك المظاهر السلبية أبدا .

    كل الود لحضورك

    ردحذف
  15. صباح الخير اشرف


    هنيئاً لمن يدرك ان خلق الله جميعاً مكرمون بغض النظر عن اشكالهم وصفاتهم
    هنيئا لمن يعامل الناس على هذا المبدأ:
    أن الله لا ينظر الى صوركم و أموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم واعمالكم

    صباحك سعيد
    انا عارفه انك سجلتني غياب ...ارجو ان تمحيه ...عندي طحشة اعذار موقعه ومختومه من ولي الامر :)

    ردحذف
  16. الأخت الكريمة نيسان

    بالعكس أنا لم أسجلك غياب ...أهلا وسهلا بك دائما في أي وقت تجدين فيه كتابات هذه المدونة تأثر وتترك بصمة طيبة في نفسك أو لنقل عندما تلاقي قبولا واستحسانا عندك ...

    أشكرك على مشاركتك معنا اليوم وأتفق معك تماما فيما قلته ...

    تحيه

    ردحذف